الأحد 13 أكتوبر 2024 الموافق 09 ربيع ثاني 1446 هـ

قصة الجدل الفقهي حول عقوبة المرتد

05 شعبان 1443 هـ


عدد الزيارات : 9305
د. فهد بن صالح العجلان

قصة الجدل الفقهي حول عقوبة المرتد

سأروي في هذه المقالة قصة "الجدل الفقهي" حول عقوبة المرتد، سنفتّش في المدوّنات التراثية لنستخرج المدارس والأقوال المحكيّة في ذلك، ولن نتطرّق في المقالة لأي أدلّة أو اعتراضات تفصيلية متعلّقة بالمسألة، فهدف المقالة مقتصر على سرد مجريات الجدل لمعرفة حدوده ومدارسه واتجاهات القائلين به.

بطبيعة الحال ستكون بداية القصة من عصر الصحابة رضي الله عنهم، فليس في عهد النبي ﷺ مجال لأيّ جدل فقهي، فطاعة النبي ﷺ لازمة على كلّ مسلم، فقوله يحسم أي خلاف، فلا يمكن أن يقع خلاف فقهي في زمنه عليه الصلاة والسلام.

تأتينا هنا أشهر واقعة متعلقة بهذا الجدل، وهي اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على قتال المرتدين، وقد كان المرتدون طوائف: فمنهم من رجع عن الإسلام، ومنهم من أنكر فرضية الزكاة، ومنهم من أبى دفعها إلى أبي بكر الصديق، فقاتلهم الصحابة جميعاً، وسَمُّوا قتالهم قتال مرتدين، وألزموهم جميعًا بحكم الإسلام.

وقد اعترض بعض المعاصرين على هذه الواقعة ففسروا هذا القتال بأنّه قتال سياسي لا ديني متعلق بحكم الردّة، ولأنّ منهجنا في هذه المقالة ألّا نخوض في التفصيلات فإننا سنتجاوز هذه الواقعة.

الجدل الفقهي في طبقة الصحابة رضي الله عنهم:

لم يقتصر موقف الصحابة من عقوبة المرتد على هذه الواقعة، تطالعنا مواقف كثيرة متعلقة بهذا الجدل، ومن ذلك:

  1. أن عليًّا رضي الله عنه أتي بزنادقة فحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله ﷺ: لا تعذبوا بعذاب الله. ولقتلتهم لقول رسول الله ﷺ: (من بدّل دينه فاقتلوه).   أخرجه البخاري (6922)).
  2. ولمّا قدم معاذ بن جبل على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في اليمن ألقى له وسادة وقال: انزل، فإذا رجل عنده مُوثق. فقال: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تهوّد، فقال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يُقتل، قضاءُ الله ورسوله ﷺ، ثلاث مرات، فأمر به فقتل. أخرجه البخاري (6923)
  3. عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وعبد الله بن عامر قالا: كنّا مع عثمان رضي الله عنه في الدار وهو محصور، فخرج يوماً متغيراً لونه فقال: إنهم ليواعدوني القتل؟ فقلنا: يكفيكهم الله يا أمير المؤمنين. قال: بم يقتلوني؟ وقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير حق»، فوالله ما زنيت بجاهلية ولا إسلام، ولا قتلت نفساً بغير نفس، ولا تمنيت بديني بدلاً مذ هداني الله عز وجل فبم يقتلوني؟) أخرجه أحمد (437)، وأبو داود (4502)، والترمذي (2158)، وابن ماجه (2533)، والنسائي (4019).
  4. وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: كان ناس من بني حنيفة ممن كانوا مع مسيلمة الكذاب يفشون أحاديثه ويبكونه، فأخذهم ابن مسعود رضي الله عنه إلى عثمان،  فكتب إليه: أن ادعهم إلى الإسلام فمن شهد منهم أن لا إله إلا الله واختار الإيمان على الكفر فاقبل ذلك منهم وخلّ سبيلهم، فإن أبوا فاضرب أعناقهم، فاستتابهم فتاب بعضهم وأبى بعضهم؛ فضرب أعناق الذين أبوا). أخرجه عبد الرزاق برقم (18707).

فهذه روايات صحيحة صريحة عن عثمان، وعلي، وابن عباس، ومعاذ، وأبي موسى، وابن مسعود رضي الله عنهم، وهي من الوقائع الشهيرة التي تنتشر عادة ويشيع أمرها. وحين نتعمّق في البحث أكثر نجد شواهد أخرى كثيرة عن الصحابة في هذا الجدل، وإن كان في سند كلّ واحدة منها مقال،  ومن ذلك:

  • أنّ امراة تدعى أم قرفة الفزارية ارتدّت عن الإسلام، فأمر بها أبو بكر رضي الله عنه فقتلت.  أخرجه الدراقطني (3202).
  • وبعث عمر رضي الله عنه سرية فوجدوا رجلاً من المسلمين تنصّر بعد إسلامه فقتلوه، فأُخبر عمر فقال: هل دعوتموه إلى الإسلام؟ قالوا: لا. قال: فإني أبرأ إلى الله من دمه. أخرجه ابن أبي شيبة (32739).
  • وكتب عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنّ رجلًا استبدل الكفر بعد إيمانه، فكتب إليه عمر: استتبه فإن تاب فاقبل منه وإلا فاضرب عنقه. أخرجه ابن شيبة (32744).
  • وعن سليمان بن موسى أنّه بلغه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنّه: دعا إنسانًا كفر بعد إيمانه ثلاثًا فأبى فقتله. اخرجه عبد الرزاق في مصنفه (18962).
  • وقال عثمان رضي الله عنه: يستتاب المرتد ثلاثاً.  أخرجه ابن أبي شيبة (32755).
  • كما وردت روايات كثيرة عن إقامة عليّ رضي الله عنه لحد الردة. (انظر: مصنف ابن أبي شيبة: (28986، 29002، 29003، 29004، 29005، 29007، 29008، 32740، 32741، 32738، 32764، 31384). ومصنف عبد الرزاق: (18710، 18715، 19721، 19296، 18709، 18691). ومعرفة السنن والآثار للبيهقي: (3/ 212، 266، 8/ 201).
  • وقال ابن عمر رضي الله عنه: يستتاب المرتدّ ثلاثًا، فإن تاب تُرك وإن أبى قُتل. أخرجه ابن أبي شيبة (28987).
  • وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إذا قُتل المرتدّ وَرِثَه ولده. أخرجه ابن أبي شيبة (32766).
  • وروي أنّ عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أقام الحدّ على امرأة قال عنها أخوه مصعب إنها تزعم النبوّة.  أنساب الاشراف للبلاذري (6/95-96).

فهذه الروايات المنقولة في هذا الباب عن أحد عشر صحابيًّا، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبو موسى وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وابن الزبير وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، كانوا فيها جميعًا على قولٍ واحد هو: عقوبة المرتدّ بسبب ردّته وليس بسبب قتاله ولا خروجه على النظام ولا أيّ شيء آخر، وهذا عدد كبير من الروايات، في وقائع مختلفة، ولم يُرو أيّ خلافٍ عن أيّ أحدٍ من الصحابة، وهي مما يقول فيه الأصوليون أنّه من الإجماع السكوتي؛ نظرًا لأنّه لو وُجد فيه أيّ خلاف لَحُكي وأصبح معروفًا لأنّ الدواعي متظافرة على نقل أيّ خلافٍ فيها.

إذن، لم يكن في عصر الصحابة أيّ جدل فقهي حول هذه القضية.

الجدل الفقهي في طبقة التابعين ومن بعدهم:

دعونا إذن نبحث عن هذا الجدل في عصر التابعين ومن بعدهم، وأوّل من يجب أن نبحث عن موقفه هنا هو عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما في سيرته من شَبهٍ بسيرة الخلفاء الراشدين، ونجد هنا موقفًا ظاهرًا من هذا الجدل: فقد كتب عمر بن عبدالعزيز في قومٍ نصارى ارتدوا: "أن استتيبوهم، فإن تابوا وإلا فاقتلوهم". أخرجه ابن ابي شيبة (32747). وقال رحمه الله: "يُستتاب المرتد ثلاثًا، فإن رجع وإلا قتل".  أخرجه ابن ابي شيبة (32761).

وحين نبحث في المدوّنة التراثية عمّا رُوي في طبقة التابعين ومن بعدهم في الجدل المتعلّق بعقوبة المرتد، نجد نصوصًا كثيرة في النصّ على عقوبة المرتد، ومن ذلك:

  • عن ابن شهاب الزهري، قال: يُدعى إلى الإسلام ثلاث مرات، فإن أبى ضُربت عنقه. أخرجه ابن أبي شيبة (28989).
  • وقال عطاء في الإنسان يكفر بعد إسلامه: يدعى إلى الإسلام، فإن أبى قتل. أخرجه ابن ابي شيبة (28990).
  • وقال عبيد بن عمير: يقتل. أخرجه ابن ابي شيبة (28991).
  • وقال: الحسن: يقتل، وميراثه لورثته من المسلمين. أخرجه ابن ابي شيبة (31387).
  • وعن موسى بن أبي كثير، قال: سألت سعيد بن المسيب عن ميراث المرتد، هل يوصل إذا قتل؟ قال: وما يوصل؟ قال: يرثه ورثته. قال: نرثهم ولا يرثونا. أخرجه ابن أبي شيبة (32769) وعبد الرزاق (19295).

غير أنّه وقع في هذه الطبقة خلاف شهير في مسألتين:

المسألة الأولى: قتل المرتدّة، فهل تُلحق المرأة بالرجل في هذا الحدّ؟ فنجد أنّهم اختلفوا إلى قولين: القول الأول: أنّه لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك فهما سواء، وهو مروي عن قتادة، وإبراهيم النخعي، وحمّاد، والزهري، والحسن، وغيرهم. القول الثاني: أنّ المرأة تعاقب ولا تقتل، وهو مروي عن الحسن، وعطاء، وإبراهيم النخعي.  غير أنّ هذا الجدل ليس متعلّقًا بعقوبة المرتدّة، أو أنّ لها حرّية المجاهرة برفض الإسلام كما   تحبّ، بل هو متعلّق بحكم عقوبة معيّنة هي القتل، وليس أنّ الردّة حقّ لها، ولهذا فمن يقول بعدم قتلها كانوا يتحدثون عن عقوبات لها: قال الحسن: تُحبس وتُسبى وتُكره. اخرجه ابن ابي شيبة (28997) وعبد الرزاق (18727). وقال قتادة: تُسبى وتُباع. اخرجه عبد الرزاق (18728). كما قال سفيان الثوري: تُحبس. (انظر: اختلاف الفقهاء للمروزي 305)

المسألة الثانية: حدود الاستتابة. فمن الخلافات الشهيرة ما رُوي عن إبراهيم النخعي ووافقه سفيان الثوري: قال النخعي: يستتاب أبدًا، وقال الثوري: هذا الذي نأخذ به.  أخرجه عبد الرزاق (18697).

وقد وقع نزاع بين العلماء في تفسير موقف هذين العالمين الجليلين إلى طريقتين: الطريقة الأولى: تفسير رأي الثوري والنخعي بأنّه متعلق بالاستتابة وليس بأصل عقوبة المرتد، وهذا رأي أكثر العلماء، فخلاف الثوري والنخعي عندهم متعلّق بمسائل الاستتابة لا بأصلّ حدّ الردّة، ثم اختلفوا في تحديد المسألة المقصودة إلى رأيين:

الرأي الأول: أنّ المقصود متعلّق بمسألة مدّة الاستتابة، وأنّهما لا يريان لها وقتًا محدّدًا بثلاثة أيام أو بشهر أو غيره. وهذا التفسير هو الذي نقله القاضي أبو يوسف في الخراج (353) عن النخعي، وهو الذي نسبه إليهما: ابن المنذر في الإشراف (8/54)، وابن الملقّن في التوضيح (31/515)، والقاضي عياض في إكمال المعلم (6/223)، وهو الذي فسّر به ابن تيمية رأيهما، فقال (في الصارم المسلول 3/598): "قال الثوري: يؤجّل ما رُجيت توبته، وكذلك معنى قول النخعي". 

الرأي الثاني: أنّ المقصود هو أنه يستتاب في كل مرة ارتد فيها، ولا يقتصر الاستتابة على مرة واحدة أو نحوه، وهما في هذا يخالفان ما ذهب إليه بعض الفقهاء الذين يشترطون في الاستتابة "ألّا تتكرّر ردّته". وهذا التفسير هو الذي حكاه محمد بن الحسن في السير (5/1939)، والطبري في تفسيره (9/318).  قال ابن حجر في فتح الباري (12/270): "والتحقيق أنّه فيمن تكرّرت منه الردّة". فهذان تفسيران لأهل العلم في مقصود النخعي والثوري، حاصلهما أنّهما لا يعارضان القول بعقوبة القتل، ويمكن أن يؤيّد قولهم بما رُوي عن النخعي والثوري من موافقة الجمهور: فعن عمرو بن قيس عمّن سمع إبراهيم يقول: "يستتاب المرتدّ كلّما ارتد". اخرجه ابن ابي شيبة (32752).

وعن الثوري قال: إذا قُتل المرتدّ قبل أن يرفعه إلى السلطان فليس على قاتله شيء" أخرجه عبد الرزاق (17850).

الطريقة الثانية: تفسير كلام النخعي والثوري بأنّه متعلّق بنفس عقوبة القتل، وأنّهما يريان أنّ العقوبة الحبس لا القتل، وهذا تفسير ابن حزم، ولهذا حين حكى الخلاف في عقوبة الردّة ذكر بأنّ ثمَّ طائفة ترى أنّه يستتاب ولا يقتل، كما ذكر في خلاف النخعي والثوري أنّه مخالف لما اتُّفِق عليه. (انظر: المحلى 12/116)، (مراتب الإجماع 127). فعلى رأي الأكثر: لا يكون قولهما مخالف لقول البقيّة في كون القتل عقوبة للمرتد بعد الاستتابة. وعلى رأي ابن حزم: فهما يخالفان إذ يريان أنّ العقوبة هي الحبس لا القتل. وعلى كلّ حال، فخلافهما على أقصى حدّ -حسب تفسير ابن حزم- متعلّق بنوع العقوبة لا بأصل التجريم، ولا أنّ الردة حقّ من حقوق الإنسان، بل هي مجرّمة ويُعاقب عليها.

الجدل الفقهي في المذاهب الفقهية الأربعة:

إلى هنا لم نجد لعقوبة الردّة أيّ جدل فقهي، فما تزال كلمة الفقهاء واحدة في العقوبة، ولكن ربما يكون هذا الجدل قد وُجد في المذاهب الفقهية الأربعة المتبوعة، حيث استقصى الأئمة واتباعهم ما روي عمّن قبلهم، أو ربما توسع نظرهم في النصوص فظهر لهم ما يخالف من قبلهم، وحين نرجع للكتب المعتمدة في المذاهب نجد ما يلي:

  • عند الحنفية: جاء في الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (4/226): "فإن أسلم فيها وإلا قتل، لحديث: (من بدل دينه فاقتلوه)".
  • وعند المالكية: من التوضيح في شرح مختصر خليل (8/219): "وحكم المرتدّ إن لم تظهر توبته القتل، لما في البخاري وغيره عنه عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه)".
  • وعند الشافعية: جاء في تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي (9/96): "فإن أصرّا: أي الرجل والمرأة على الردّة قُتلا، للخبر المذكور".
  • وعند الحنابلة، نجد في كشّاف القناع (6/168): "وأجمعوا على وجوب قتل المرتدّ".

فمع ضخامة مادّة الخلاف الفقهي بين المذاهب الأربعة إلّا أنّ هذه المسألة لم يُختلف عليها، بل اتفقت كلمة المذاهب الأربعة جميعًا عليها. والّلافت ليس مجرّد الاتفاق على هذا القول، وإنّما خلّوها من أي ذكرٍ لأي خلاف ولو شاذّ، فكتب المذاهب عادة تحتوي على أقوال وروايات وأوجه كثيرة تخالف المعتمد في المذهب، فلا يخلو وجود شيء من ذلك حتى في المسائل التي يُستبعد فيها وجود خلاف، أمّا في مسألة عقوبة المرتدّ فليس هناك أي وجه ولا رواية ولا قول يُحكى في أي مذهب من المذاهب الأربعة!

وقد وقع بين المذاهب الأربعة ذات الخلاف الذي وقع بين التابعين فيما يتعلّق بعقوبة المرأة، فذهب الحنفية إلى عدم قتلها خلافًا للمذاهب الثلاثة.

الجدل الفقهي عند الفقهاء المستقلين:

لم نجد إذن أيّ جدل فقهي حول عقوبة الردّة في أيّ شيء من المذاهب الفقهية المشهورة المعتبرة. لكنّنا ربما نجد هذا الجدل في أقوال العلماء المستقلّين عن المذاهب، ممن لا ينتمي لمذهب فقهي معين، أو عُرف مخالفته لمذهبه في كثيرٍ من المسائل، فربّما يكون لنزعتهم الاستقلالية وميلهم للاجتهاد أثر في هذه المسألة، فدعونا نأخذ عددًا منهم:

  • قال الترمذي في: (السنن 1800) عن حديث ابن عباس: (هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم).
  • وقال ابن عبد البرّ (في الاستذكار 22/143): "ولا أعلم بين الصحابة خلافًا في استتابة المرتدّ، فكأنّهم فهموا من قول النبي ﷺ: مَن بدل دينه فاقتلوه أي بعد أن يستتاب".
  • وقال ابن حزم (في مراتب الإجماع 127): "واتفقوا أنّ من كان رجلاً مسلمًا حرًّا باختياره وبإسلام أبويه كليهما أو تمادى على الإسلام بعد بلوغه ذلك ثمّ ارتدّ إلى دين كفر -كتابي أو غيره- وأعلن ردّته واستتيب في ثلاثين يومًا مائة مرّة فتمادى على كفره وهو عاقل غير سكران أنّه قد حلّ دمه، إلّا شيئًا رويناه عن عمر وعن سفيان وعن إبراهيم النخعي أنّه يستتاب أبدًا".
  • وقال ابن تيمية (في مجموع الفتاوى 20/100): "والكتاب والسنة دالّ على ما ذكرناه من أنّ المرتدّ يُقتل بالاتفاق وإن لم يكن من أهل القتال".
  • وقال الصنعاني (في سبل السلام 2/383): "الحديث دليل على أنّه يجب قتل المرتد، وهو إجماع".
  • وقال الشوكاني (في السيل الجرّار 4/372): "قتل المرتد عن الإسلام متّفق عليه في الجملة وإن اختلفوا في تفاصيله والأدلّة الدالّة عليه أكثر من أن تُحصر"

إذن لا نجد عند هؤلاء الفقهاء المستقلين ما يُخالف ما هو موجود عند المذاهب الفقهية المتبوعة، بل وجدنا كلّ واحدٍ منهم يحكي الإجماع على ذلك. وهذا يستدعي النظر في حكاية الإجماع هنا، هل هي خاصّة بهم فربما يكون قد خفي عليهم خلاف أو لم يتفطّنوا لمحل نزاع.

الواقع أنّ نقولات الإجماع في عقوبة الردّة كثيرة جدًّا، سنقتصر على بعض النماذج قبل أن ننتقل للبحث عن الجدل الفقهي في موضع جديد.

قال الشافعي (في الأم 6/196): "لم يختلف المسلمون أنّه لا يحلّ أن يفادى بمرتدّ بعد إيمانه ولا يمنّ عليه ولا تُؤخذ منه فدية ولا يُترك بحال حتى يسلم أو يقتل". وقال القاضي أبو يوسف (في الخراج 353): "وأحسن ما سمعنا في ذلك والله أعلم: أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم على ما جاء من الأحاديث المشهورة وما كان عليه من أدركنا من الفقهاء". 

وقال الطحاوي (في شرح معاني الآثار3/267): "رأيناهم قد أجمعوا على أنّ المرتدّ قبل ردته محظور دمه وماله ثم إذا ارتد فكلٌّ قد أجمعوا على أنّ الحظر المتقدّم قد ارتفع عن دمه وصار دمه مباحًا".

وحتى لا أطيل عليك، سأسرد مَن نَقل الإجماع من غير مَن سبق ذكره:

  • ابن المنذر في الإجماع 76. 
  • الجصاص في أحكام القرآن 4/55.
  • أبو الحسن اللخمي في التبصرة 13/1631 
  • البغوي في شرح السنة 5/431.
  • الماوردي في الحاوي الكبير 13/149 
  • النووي في شرح صحيح مسلم 12/208. 
  • ابن قدامة في المغنى 12/264.
  • ابن القطان في الإقناع في مسائل الإجماع 1/355.
  • السبكي في السيف المسلول 119.
  • ابن رشد في بداية المجتهد 2/343.
  • الطوفي في شرح مختصر الروضة 3/11.

ونكتفي بهذا، إذْ من السهل مضاعفة هذه القائمة لكثرة الأعلام الناقلين لهذا الإجماع. 

الجدل الفقهي عند المفسرين:

حتى الآن لم نظفر بشيء من هذا الجدل الفقهي عن عقوبة الردة، فكلّ مظان البحث التي حرثناها لم نجد فيها أيّ شيء يشير إلى أيّ جدل فقهي حول هذه القضية.

حسنًا.. بما أنّ حدّ الردّة لم يُذكر في القرآن، ويتكرّر عند مَن ينفي العقوبة الاستدلالُ كثيرًا بأنّه عقوبة لم تذكر في القرآن، ويسوقون الآيات التي تدلّ على نفيه، فلا بد إذن أن نجد شيئًا مِن هذا الجدل في كتب أعلام المفسرين الذين كان لهم عناية بكتاب الله والنظر في معانيه وأحكامه:

نطالع في كتب المفسّرين حديثًا بيّنًا عن عقوبة الردّة، ويقرّر فيها على أنّه حكم بَدَهي ليس محلّ شك، ولا يُثير أيّ إشكال، تجد ذلك عند: الطبري في تفسيره (9/317)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (3/47)، وابن كثير في تفسيره (1/180)، والثعالبي في الجواهر الحسان (1/288)، وأبو حيان في البحر المحيط (2/293)، والرازي في التفسير الكبير (3/627)، وابن عطيّة في المحرّر الوجيز (1/186).. وهكذا حتى نصل إلى زماننا، فنجد ابن عاشور (في التحرير والتنوير 2/335): مستدلًا بقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}: "وقد أشار العطف في قوله: فيمت بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أنّ الموت يعقب الارتداد، وقد عَلم كلُّ أحد أنّ معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد؛ فيَعلمَ السامعُ حينئذ أنّ المرتد يُعاقب بالموت عقوبة شرعية، فتكون الآية بها دليلًا على وجوب قتل المرتد".

وقال الشنقيطي (في أضواء البيان 1/401): "لأنّ المرتدّ يُقتل بردّته وكفره، ولا يُقطع؛ لقوله ﷺ عاطفًا على ما يوجب القتل: (والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وقوله: (من بدل دينه فاقتلوه)». فمن الطبري إلى الشنقيطي، مئات السنين وعقوبة الردّة تُقرّر في كتب التفسير بلا أي ذكر لأيّ خلاف في العقوبة، ولا حديثٍ عن الحرّية الدينية القطعية، ولا إيرادٍ لأيّ خلاف ولا جدل فيها!

الجدل الفقهي عند شرّاح الأحاديث النبوية:

يبدو أنّنا نسينا محلّاً مهمًّا، إن كان ثَمَّ جدل فقهي في عقوبة الردّة فلا بد أن يكون له ذكر فيه، وهو شروح الأحاديث، فقد يكون لاختصاص الشرّاح بالنظر في الدليل ما يجعل الشروح مظنّة لظهور جدل حول هذه القضية، كما أنّ مَن ينكر الحدّ يذكر أحاديثًا وآثارًا فيها، فربّما نعثر فيه على أقوالٍ أو اجتهادات مختلفة.

قلّبنا هذه الشروح، فوجدنا أنّ ذات المادّة السابقة في تقرير عقوبة الردّة تتكرّر هنا، الحديث عن عقوبة الردّة قضية مسلّمة ليست محلّ نزاع، ولا تثير أيّ إشكال، تابع مثلًا ما يذكره: ابن بطال في شرح صحيح البخاري (8/571)، وابن حجر في فتح الباري (12/269)، وابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (31/507)، والنووي في شرح صحيح مسلم (12/208)، والقاضي عياض في إكمال المعلّم بفوائد مسلم (6/223)، والمفهم لما أشكل من تلخيص مسلم (15/121)، والمنتقى شرح الموطأ (5/281)، وشرح الزرقاني على الموطّأ (4/41).

وما يزال البحث قائمًا على قدم وساق للبحث عن موضع هذا الجدل الفقهي، فلم نجد له أثرًا في عصر الصحابة، ولا في طبقات العلماء من بعد الصحابة عند التابعين ومن بعدهم، ولا وجود له في المذاهب الفقهية المتبوعة، ولا عند العلماء المستقلّين، ولا في كتب التفسير، ولا في شروح الأحاديث، في زمان ممتدّ وأمكنة مختلفة ومساحة بحث ضخمة ومدارس متباينة ومذاهب فقهية مختلفة، ولم نجد أي حكاية لأي شيء متعلّق بهذا الجدل.

إذن، ما قصة الجدل الفقهي حول عقوبة المرتد؟

القصة -باختصار- أنّه ليس لدينا أيّ جدل فقهي في هذه القضية، وأنّ أهل الإسلام لم يعرفوا أيّ خلافٍ في هذه الجزئية، بل كانت الكلمة واحدة في تجريم الردّة عن الدين، ورفض أي مجاهرة برفضه، ويسوقون الدلائل عليه، ولا يذكرون في ذلك أيّ خلاف قوي ولا ضعيف ولا شاذ، وهي من المسلّمات البدهية التي يُستدل بها ولا يعترض أحد عليها، ومن يشكّك في هذه النتيجة فله -إن استطاع- أن يذكر مثالاً واحدًا لأيّ عالم مسلم من أيّ مذهب يختار، وفي أيّ عصر يريد، وفي أيّ بلدٍ شاء، حتى نجد أيّ شيء يمكن أن ندرجه في هذه القصة.

فقصّة الجدل حول هذه القضية هي جدل معاصر، نشأ بعد هيمنة الثقافة العَلمانية الغربية، حيث أصبح الدين مهمّشًا لا أثر له في النظام العام، إنّما يقوم النظام على مرجعية محايدة لا يكون للدين أثر في فرض شيء أو المنع منه، فالنظام محايد في أيّ قضية متعلّقة بالدين. 

في مثل هذا الفضاء العَلماني لم يعد مفهوم التجريم بسبب ترك الإسلام مفهومًا، فترك الإسلام وفق الرؤية العلمانية هو حرّية شخصية، لا فائدة من منع أي أحد منها، لأنّ الدين أساسًا شيء هامشي متعلّق بخيار الشخص لا علاقة للنظام به. هذه الثقافة العَلمانية المعاصرة أثّرت في كثير من الناس، فأُعيد لاحقًا قراءة النصوص الشرعية والأقوال والمذاهب وفقًا لذلك، ونشأ بعض المسلمين وهم يسمعون مثل هذه الأقوال المعاصرة حتى ظنّوا أنّها هي الدلالة الصحيحة للإسلام، أو لها على الأقل قول فقهي معتبر شائع ومعروف، والواقع أنّ هذا لا وجود له في الفقه الإسلامي، فهو مبني على رؤية مناقضة تمامًا لهذه الرؤية المتأثرة بالعَلمانية، فالشريعة تقوم على الحكم بما أنزل الله، وليس تحييد الحكم بالدين.

ما فائدة هذه النتيجة؟

العاقل البصير تكفيه هذه النتيجة عن تطلّب الأدلّة والنقاشات التفصيلية، فيكفي أن يدرك أنّه قولٌ لا وجود له في المدونة الإسلامية خلال ثلاثة عشر قرنًا حتى يعرف أنّه قول باطل وليس من الأقوال المعتبرة، ويجزم أنّ كلّ الأدلّة التي تذكر فهي أدلّة هشّة وضعيفة.

ولأنّ هدفنا في هذه المقالة حكاية قصّة الجدل وليس الخوض في تفصيلاته فلن نعرّج على ذكر الأدلّة، إنّما سنكتفي بذكر دليل واحد من أدلّة المنكرين لعقوبة المرتد الذين يقررون الحرية الدينية وفق الرؤية الليبرالية، ونعرضه على الفحص العلمي كنموذج ليقاس عليه غيره.

قطعيات القرآن: يتّفق كافّة من يقرّر هذه الحرية الدينية على ذكر أنّ القرآن جاء بحرّية التديّن، وأنّ القول بعقوبة المرتدّ منافٍ لهذه الحرية، ويذكرون في هذا أدلة كثيرة، حتى يقول بعضهم هناك عشرات الآيات الدالّة على هذا المعنى! ويقول بعضهم: عندنا (20) آية! ويزيد غيرهم فيقول: (40) آية! بل قيل إنها تصل لمئة آية!

هل تعلم ماذا يعني أنّ عندك في مسألةٍ ما: (20) أو (40) آية قطعية؟

حتى تستوعب معي معنى هذا الكلام: دعني أوضّح لك -بمثال إحصائي سريع- عدد الآيات الموجودة في بعض مسائل الاجماع المتّفق عليها بين المسلمين:

  • حدّ السرقة ليس فيه إلا آية واحدة.
  • حدّ القذف ليس فيه إلا آية واحدة.
  • التفاضل في الميراث بين الذكر والأنثى ليس فيه إلا آية واحدة أو آيتين.
  • تحريم الربا ليس فيه إلا خمس آيات.
  • تحريم الخمر ليس فيه إلا آية واحدة آو آيتين.

فلاحظ معي: كيف أنّ هذه الأحكام القطعية المتّفق عليها والتي لا تخفى على مسلم ليس فيها إلا آية أو آيتين، وربما خمس آيات، ولو ذهبت لأحكام أشدّ ضرورة منها كحرمة الفواحش والزنا ستجد ثلاث عشرة آية.. فلو كانت الحرّية الدينية كما يدّعون فيها (40) آية، فهذا يعني أنّها من الضرورات القطعيات التي لا يخفى أمرها على أي مسلم، وسيكون الجزم بها أشدّ من الجزم بحرمة الربا والخمر والزنا.

لكن العجيب أنّه لم يتّفق عليها العلماء، بل ولم يقل بها أحد من العلماء بتاتًا، بل كلّهم يخالفونها ويذكرون الأدلّة المخالفة لها، وبقيت هذه الآيات القرآنية القطعية الضرورية خفية حتى اكتشفت في عصرنا الحاضر!

إذن، لا حاجة لأن تبحث في تفصيلات ما يذكرونه من آيات، العاقل البصير يدرك بداهة أنّ هذه الاستدلالات غلط وسوء فهم من دون حاجة لأن يأتي على ذكرها واحدة واحدة، لأنّه لو كان عندنا عُشر هذا الرقم يدلّ على ما ذكروه لأصبح هذا من الضرورات ولغدت محلّ اتفاق بين كافّة العلماء، أو على الأقل قول الجماهير منهم، فأَنْ تبقى طيلة هذه القرون كلها  لا يقول بها أي أحد؛ فهذا دليل على أنّ هذه الآيات ليس لها علاقة بقولهم، بل وأنّ هذا الفهم بعيدٌ جدًّا عمّا ذكروه، وإنّما أعيد قراءتها في عصرنا لتكون منسجمة مع المتغيّر الثقافي المعاصر الذي أثّر عليهم ولو لم يشعروا.

يتحمس بعض الناس فيقول: حتى ولو كان القول بالحرّية الدينية ورفض عقوبة الردّة لم يقل به أحد من المتقدّمين، ما الإشكال في أن نقدّم تفسيرًا جديدًا يخالف قول المتقدّمين، فلماذا نأسر عقولنا وفق اجتهادات المتقدمين؟ وبما أنّ صاحبنا المتحمّس قد ذكر العقل، فالعقل يستهجن مثل هذا التفسير، كيف تجد في كتاب الله عشرات الآيات تدلّك على معنى معين، ولا يعثر عليه أيّ أحد خلال (13) قرنًا، العلماء الذين كانوا يدقّقون في كلّ حرفٍ من كتاب الله، ويخوضون نقاشات طويلة وخلافات عريضة في تفصيلات دقيقة من أحكام القرآن، كيف يقبل عاقل أن تخفى عليهم أربعون آية لا يتفطّن أيُّ أحد منهم -على اختلاف أزمانهم  وبلدانهم ومدارسهم- على أنّها تدلّ على حكم قطعي ظاهر، ويبقى هذا خفيًّا مئات السنين -وهو في القرآن- حتى يأتي بعض المعاصرين فيظفر بهذه الآيات! هذا الاتفاق القطعي على غياب مثل هذا القول يؤكّد أنّه قول باطل، وأنّه ليس من قبيل الاجتهاد المعتبر، فالقضية ليست متعلّقة بنازلة جديدة، أو مسألة محتملة، أو فيها خلاف، أو لم ينقل فيها شيء، بحيث يُقال إنّنا نقدّم فهمًا جديدًا، فهذا الفهم الجديد لا يمكن أن يكون منطلقًا من اجتهاد شرعي معتبر.

وهذا الدليل، دليل اتفاق المسلمين على ذلك، وأنّ القول الآخر محدث ليس هو الدليل الوحيد في هذه المسألة، ولن يقف النقاش عند ذكره، بل من السهولة الدخول في مناقشة كافّة الاعتراضات وإثبات بطلانها، وإيراد الأدلّة الكثيرة التي تثبت صحة اتفاق المسلمين، وبداهة فهم لم يتّفقوا على هذا القول إلّا وأدلّته ظاهرة بينة، فنحن لا نتمسّك به لعجزنا عن ذكر الأدلة ومناقشتها، وإنما فائدة هذا الاستدلال هو تصوير واقع الجدل في هذه القضية، ووضع الخلاف المعاصر في وزنه الطبيعي، ورسمه على الخارطة كما هو، فهو ليس من الجدل الفقهي المعتبر، وإنّما خضع لضغط الثقافة العلمانية المعاصرة، ولو ألقى معاذيره.

المصدر: موقع طريق الإسلام

إضافة تعليق جديد