الأحد 08 ديسمبر 2024 الموافق 06 جمادي الثاني 1446 هـ

تأريخ الفرق

قواعد علميَّة في الرد على المبتدعة

09 شوال 1438 هـ


عدد الزيارات : 23421
أحمد الصويان

 


هذا البحث عبارة عن جزء من كتاب: "أصول وقواعد منهجية"، وهو كما عبّر مؤلفه: قراءة متأنية في كتاب «منهاج السُّنة النبويّة» لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

وقد احتوى كتاب منهاج السُّنة النبويّة -الذي ألّفه ابن تيمية في الردّ على ما أثاره الرافضة من شبهات، فأتى عليها من أصولها؛ فدحض باطلها، وأقام معالم السنة وأبان قواعدها- على العديد من القواعد العلميَّة في الرد على المبتدعة.

وقد رسمت هذه القواعد بوضوح جزءًا مهمًّا من منهج أهل السُّنة والجماعة في الرد على أهل البدع عمومًا، وفي ضبط منهج المسلم، وإبعاده عن الزيغ والانحراف. والقواعد التي استخرجها المؤلف هي:

القاعدة الأولى: الحذر من الهوى. وقد نقل المؤلف بعناية كلام شيخ الإسلام في بيان أثر الهوى على آراء الإنسان وتصوّراته، ودوره في إحداث الفرقة بين المسلمين، والسبيل للنجاة من هذا المزلق الخطير.

القاعدة الثانية: العدلُ مع الموافق والمخالف. تقديراً لمبدأ متابعة الحق، ونزاهة البحث، وليس ذلك مع أهل السُّنَّة فحسب، بل مع جميع الملل والطوائف على مختلف اعتقاداتها واتجاهاتها. ومن تطبيقات هذه القاعدة:

  • قبول الحقّ من كلِّ من قاله، بغضِّ النظر عن اتجاهه العقدي أو المذهبي.
  • ما كان مشروعاً لم يُترك لمجرد فعل أهل البدع له.
  • إثبات محاسن الخصم وعدم جحدها إذا تبيَّن صحتها وثبوتها عنهم.
  • قد يجتمع في الشخص الواحد موجبات المدح وموجبات الذم.
  • عدم مقابلة الباطل بالباطل.

وذكر لكلٍّ من هذه التطبيقات أمثلة كثيرة، وفي مقابل ذلك بيّن فساد منهج أهل البدع وتحديدًا الرافضة، وتقاصرهم وبعدهم عن هذه القاعدة المهمّة.

القاعدة الثالثة: التفريق بين طوائف الرافضة وعدم تعميم الأحكام. وهذا من العدل مع المخالف، ونقل قوله بدقة، وعدم نسبة أشياء لا يقول بها إليه.

القاعدة الرابعة: التثبت في النقل عن المبتدعة. فلا يجوز أن يُنسب للإنسان ما لم يقله، حتى لو كان مبتدعاً مفترياً للكذب محارباً لأهل السُّنَّة. والتثبتُ في النقل علامة مهمة على النزاهة والأمانة والصدق، ولن يستقيم البحث العلمي إلا بذلك.

القاعدة الخامسة: هجر المبتدعة وهو من باب العقوبات الشرعية. والهجر يكون بحسب الأحوال من قلة البدعة وكثرتها.


  • البحث:

البدعة أمرها عظيم وشأنها خطير، جرَّ المبتدعة على الأمة فتناً وشروراً عظيمة، حيث لبَّسوا على الناس دينهم، وأدخلوا فيه ما ليس منه، وتواترت النصوص من الكتاب والسُّنَّة الصحيحة وأقوال السلف الصالح بالتحذير من خطر البدعة والمبتدعة، قال الله -تعالى-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور: 63].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (.. فإنَّه من يعش منكم، فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور! فإنَّ كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)أخرجه: أحمد (4/126 - 127)، وأبو داود (5/13 - 15)، والترمذي (5/44) وابن ماجة (1/16)..

وحدث ما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم، فأطل المبتدعة برؤوسهم، وراحوا يعيثون في الأمة فساداً، وكان موقف السلف الصالح -رضي الله عنهم- موقفاً قوَّياً صارماً في مواجهة المبتدعة، ورسموا في ذلك منهجاً علمَّياً دقيقاً في التعامل مع هؤلاء الضلال المنحرفين.

والعصر الذي عاش فيه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كان عصراً مليئاً بالفتن والبدع والضلالات، مـمَّا جعله يواجه طوائف المبتدعة بمختلف مللهم ونحلهم، ويرد عليهم، وفي أثناء ذلك خط -رحمه الله تعالى- منهجاً متيناً في الردِّ على المخالفين، اقتبسه من منهج القرون المفضلة الأولى، وهو في كتابه (منهاج السُّنَّة النبوية) يردُّ على طائفة من أكثر الطوائف ابتداعاً وتفرقاً وضلالاً، ولا نستطيع أن نحدد معالم ذلك المنهج وخطوطه العامة من خلال مؤلَّف واحد لهذا الإمام، وإنَّما يتطلب الأمر دراسة استقرائية مستفيضة لجميع مؤلفاته وردوده على المخالفين، لكي تكتمل الصورة وتتضح جميع الأطراف، ولكن حسبي في هذه الدراسة أن أشير إشارة يسيرة، آملاً أن تكون حلقة مباركة في هذه الباب إن شاء الله تعالى.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في معرض رده على ابن المطهر الرافضي عدداً من القواعد العلمية التي تضبط منهج الإنسان، وتبعده عن الزيغ والانحراف، من هذه القواعد:

  • القاعدة الأولى: الحذر من الهوى:

أكّد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مواضع كثيرة من كتبه، وفي كتابه (منهاج السُّنَّة النبوية) خاصة، ضرورة نبذ الهوى الذي يطغى على قلب الإنسان فيؤثر على آرائه وتصوراته وسلوكه، وبيَّن أنَّ الهوى من الأسباب الرئيسة لحدوث التفرق والاختلاف في هذه الأمة.

ولا شك بأنَّ نزاهة الباحث وتجرده عن الأهواء والمصالح الذاتية، والتزامه بالموضوعية التامة، وطرحه للمسائل والموضوعات بتجرد تام، وطريقة مهذبة: ركن ركين لسلامة البحث العلمي وقوامه، ولا يمكن أن يصل الباحث إلى المعرفة العلمية الصحيحة حتى يزن الآراء والتصورات والمناهج العقدية والسلوكية بموازين علمية رزينة، بعيدة كل البعد عن الرغبات الشخصية والميول المذهبية.

قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في ذمه للهوى: "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمُّه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أنَّ الذي يرضى له ويغضب له أنَّه السُّنَّة، وأنَّه الحق، وهو الدين، فإذا قُدِّر أنَّ الذي معه الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحميَّة لنفسه وطائفته، أو الرياء، ليُعظَّم هو ويُثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا: لم يكن لله، ولم يكن مجاهداً في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يدَّعي الحق والسُّنَّة هو كنظيره معه حق وباطل، وسنَّة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل، وسنة وبدعة؟!"(5/256)..

ويشير ابن تيمية في موضع آخر إلى وجوب تقديم الشرع على الهوى والرأي، وجعل ذلك أصلاً عظيماً يختلف فيه أهل السُّنَّة المتبعون لرسولهم صلى الله عليه وسلم عن مخالفيهم من جميع الطوائف والفرق، حيث قال: ".. معلوم وجوب تقديم النص على الرأي، والشرع على الهوى، فالأصل الذي افترق عليه المؤمنون بالرسل والمخالفون: تقديم نصوصهم على الآراء، وشرعهم على الأهواء، وأصل الشر من تقديم الرأي على النص، والهوى على الشرع. فمن نَوَّرَ الله قلبه، فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير، وإلا فعليه الانقياد لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه، وليس له معارضته برأيه وهواه"(8/411)..

ويذكر ابن تيمية بأنَّ المبتدعة إنما يتصرفون بأهوائهم، فقال: "وأيضاً فصاحب البدعة يبقى صاحب هوى يعمل لهواه لا ديانة، ويصدر عن الحقِّ الذي يخالف هواه"(5/250)..

ويقول في موضع آخر أيضاً: ".. وهذه حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسُّنَّة، فإنَّهم إن يتبعون إلا الظنَّ وما تهوى الأنفس، ففيهم جهل وظلم، خاصة الرافضة، فإنَّهم أعظم ذوي الأهواء جهلاً وظلماً"(1/20)..

وبناءً على ذلك: أصبح المبتدعة يتعصبون لطوائفهم، ويذمّ بعضهم بعضاً دون أن يزِنُوا الأمور بموازين علمية: «فاختلاف أهل البدع هو من هذا النمط، فالخارجي يقول: ليس الشيعي على شيء، والشيعي يقول: ليس الخارجي على شيء، والقدري النَّافي يقول: ليس المثبت على شيء، والقدري الجبري المثبت يقول: ليس النافي على شيء...

بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية المنتسبين إلى السُّنَّة، فالكلابي يقول: ليس الكرامي على شيء، والأشعري يقول: ليس السالمي على شيء، والسالمي يقول: ليس الأشعري على شيء.. وهذا من جنس الرفض والتشيع، لكنَّه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء، لا تشيع في تفضيل الصحابة..».

ثم يقول بعد ذلك مبيناً المنهج القويم: "والواجب على كلِّ مسلم يشهد أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، يدور على ذلك، ويتبعه أين وجده، ويعلم أنَّ أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً عامَّاً إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لطائفة انتصاراً مطلقاً عاماً إلا للصحابة - رضي الله عنهم أجمعين -، فإنَّ الهدى يدور مع الرسول صلى الله عليه وسلم حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يُجمعوا على خطـأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنَّهم قد يُجمعون على خطأ، بل كلَّ قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمَّة لا يكون إلا خطـأ، فإنَّ الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ليس مُسلَّماً إلى عالم واحد وأصحابه، ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم"(5/262)..

وقد ذكر ابن تيمية أنَّ أكثر أهل البدع همَّهم أن ينتصروا على غيرهم، وأن ترتفع رايتهم، دون أن يقصدوا إعلاء كلمة الله -سبحانه وتعالى-، ولذا فهم يدورون حيث دارت بهم أهواؤهم، قال -رحمه الله تعالى-: "فإنَّ أكثرهم [يعني: أهل البدع] قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نُسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه، ويرضون عمَّن يوافقهم وإن كان جاهلاً سيء القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيُقضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذه حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم، ويقولون: هذا صديقنا وهذا عدونا، وبلغة المغلِّ: هذا بالٍ هذا باغٍ، لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومعاداة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"(5/255)..

ويُشير ابن تيمية في موضع آخر إلى حال ابن المطهر الرافضي فيقول: "وشيوخهم المصنِّفون: فيهم طوائف يعلمون أنَّ كثيراً ممَّا يقولونه كذب، ولكن يُصنِّفون لهم لرياستهم عليهم.

وهذا المصنِّف يتهمه الناس بهذا، ولكن صنَّف لأجل أتباعه، فإن كان أحدهم يعلم أنَّ ما يقوله باطل ويُظهره، ويقول: إنَّه حق من عند الله، فهو من جنس علماء اليهود الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم ممَّا كسبت أيديهم، وويل لهم ممَّا يكسبون، وإن كان يعتقد أنَّه حق، دلَّ ذلك على نهاية جهله وضلاله:

إن كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم"(5/162)..

ومن أجل ذلك كلِّه يؤكد ابن تيمية -رحمه الله تعالى- ضرورة تطهير القلب وتحسين القصد عند الردِّ على المبتدعة، ويُحذر بشدّة من أن يكون ذلك بقصد التشفي والانتقام، فها هو ذا يقول: "وهكذا الردُّ على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إنْ لم يُقصد فيه بيان الحق وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم: لم يكن عمله صالحاً، وإذا غلَّظ في ذمِّ بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يُهجر الرجل عقوبة وتعزيراً، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله، للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خُلفوا، لمَّا جاء المتخلّفون عن الغزاة يتعذرون ويحلفون، وكانوا يكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر، ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق"(5/239)..

وقال أيضاً: "والأمر بالسُّنَّة والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغي به وجه الله وأن يكون مطابقاً للأمر، وفي الحديث: (من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليماً بما يأمر به، عليماً بما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه)قال المحقق: لم أجد هذا الحديث. قلت: لعلَّه من كلام الإمام الثوري، انظر: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال، رقم (32)..

فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم بعد الأمر، فإن لم يكن عالماً لم يكن له أن يقفوَ ما ليس به علم، وإن كان عالماً ولم يكن رفيقاً، كان كالطبيب الذي لا رفق فيه، فيُغلظ على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدِّب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال -تعالى- لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه: ٤٤].

ثم إذا أمر ونهى فلا بدَّ أن يُؤذى في العادة، فعليه أن يصبر ويحلم كما قال -تعالى-: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[لقمان: 17].

وقد أمر الله نبيَّه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، فإنَّ الإنسان عليه أولاً أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمره به، وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه، فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته، وتنقيص غيره، كان ذلك حميَّة لا يقبله الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطاً، ثم إذا رُدَّ عليه ذلك وأوذي أو نُسب إلى أنَّه مخطئ وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله الله، ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي.."(5/253 - 255)..

  • القاعدة الثانية: العدلُ مع الموافق والمخالف:

امتداداً للقضية السابقة وأثراً من آثارها، يؤكد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- على ضرورة العدل في كل شأن من شؤون الحياة، تقديراً لمبدأ متابعة الحق، ونزاهة البحث، ويعدُّ ذلك أصلاً أصيلاً من دعائم الإسلام، وليس ذلك مع أهل السُّنَّة فحسب، بل مع جميع الملل والطوائف على مختلف اعتقاداتها واتجاهاتها.

ولقد استطاع شيخ الإسلام ابن تيمية إبراز هذا المحور من محاور المنهج العلمي بكلِّ قوة ووضوح، وهو يردُّ على طائفة من أكثر الطوائف غلواً، وعداءً لأهل السُّنَّة.

وتقدَّم قبل قليل قوله -رحمه الله تعالى-: ".. ومعلوم أنَّا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة مثل الملوك المختلفين على الملك، والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل لا بجهل وظلم، فإنَّ العدل واجب لكلِّ أحد على كلِّ أحد في كلِّ حال، والظلم محرم مطلقاً، لا يباح قط بحال.

قال -تعالى-: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: ٨]، وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار، وهو بغض مأمور به، فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نُهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو بهوى نفس؟!، فهو أحق ألَّا يُظلم، بل يعدل عليه.

وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق من عُدل عليهم في القول والعمل، والعدل مـمَّا اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته، والثناء على أهله ومحبتهم، والظلم مـمَّا اتفقوا على بغضه وذمِّه وتقبيحه، وذم أهله وبغضهم. وليس المقصود: الكلام في التحسين والتقبيح العقلي، فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع في مصنّف مفرد، ولكن المقصود: أنَّ العدل محبوب باتفاق أهل الأرض، وهو محبوب في النفوس، مركوز حبه في القلوب، تُحبه القلوب وتحمده، وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب، والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتُبغضه وتذمّه"(5/126 - 127)..

وقال أيضاً: "وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية، فهذا إذا تكلَّم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة، فالله -تعالى- يُثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلَّم فيه داعياً إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإنَّ دفع شره عنهم أعظم من دفع شرِّ قاطع الطريق"(5/146)..

وقد ذكر ابن تيمية قول الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء: 135]، ثم قال: والليُّ: هو تغيير الشهادة، والإعراض: كتمانها، والله -تعالى- قد أمر بالصدق والبيان، ونهى عن الكذب والكتمان فيما يحتاج إلى معرفته وإظهاره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا محقت بركة بيعهما)أخرجه: البخاري (3/58 و 64)، مسلم (3/1164)..

وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة: ٨]"(1/16)..

وليس هذا الكلام تنظيراً مجرداً يُطلقه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وإنَّما هو تأصيلٌ عمليٌ سار عليه واعتمده في ردّه على المخالفين أيَّاً كان اتجاههم، وقد تبيَّن ذلك جليَّاً في كتابه (منهاج السُّنَّة النبوية) في عدة قضايا، أذكر منها:

أولاً: قبول الحقّ في كلِّ من قاله بغضِّ النظر عن اتجاهه العقدي أو المذهبي:

قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "والقول الحق الذي يقوم عليه الدليل يُقبل من كلِّ من قاله، وإن لم يُقبل بمجرَّد المخبر به"(1/56)، وفي هذا الباب يقول تلميذه ابن القيم: «فطالب الحق يقبله مـمَّن كان، ويردّ ما خالفه على من كان». (مدارج السالكين، 3/331)..

وقال أيضاً: "والله قد أمرنا ألَّا نقول عليه إلا الحق، وألَّا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل القسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني - فضلاً عن الرافضي - قولاً فيه حقٌ أن نتركه، أو نردّه كله، بل لا نردّ إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق، ولهذا جُعل هذا الكتاب: (منهاج السُّنَّة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية)، فإن كثيراً من المنتسبين إلى السُّنَّة ردوا ما تقوله المعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع بكلام فيه أيضاً بدعة وباطل، وهذه طريقة يستجيزها كثير من أهل الكلام، ويرون أنه يجوز مقابلة الفاسد بالفاسد، لكن أئمة السُّنَّة والسلف على خلاف هذا، وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلاً بباطل وبدعة ببدعة، ويأمرون ألَّا يقول الإنسان إلا الحق، لا يخرج عن السُّنَّة في حال من الأحوال، وهذا هو الصواب الذي أمر الله -تعالى- به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم نرد ما تقوله المعتزلة والرافضة من حق بل قبلناه، لكن بيَّنا أن ما عابوا مخالفيهم من الأقوال، ففي أقوالهم من العيب ما هو أشد من ذلك.

فالمنتسبون إلى إثبات خلافة الأربعة وتفضيل الشيخين، وإن كان بعضهم يقول أقوالاً فاسدة، فأقوال الرافضة أفسد منها، وكذلك المناظر للفلاسفة والمعتزلة من المنتسبين إلى السُّنَّة كالأشعري وأمثاله، وإن كانوا قد يقولون أقوالاً باطلة، ففي أقوال المعتزلة والفلاسفة من الباطل ما هو أعظم منها، فالواجب إذا كان الكلام بين طائفتين من هذه الطوائف أن يبيَّن رجحان قول الفريق الذي هو أقرب إلى السُّنَّة بالعقل والنقل، ولا ننصر القول الباطل المخالف للشرع والعقل أبداً، فإن هذا محرم ومذموم يذم به صاحبه، ويتولد عنه من الشر ما لا يوصف، كما تولد من الأقوال المبتدعة مثل ذلك"(2/342 - 343)..

وفي موضع آخر ذكر ابن تيمية قول الله -تعالى-: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ 32 وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ}[الزمر: 32 - ٣٣].

ثم قال: "فقد ذمَّ الله -سبحانه وتعالى- الكاذب على الله والمكذِّب بالصدق، وهذا ذمّ عام، والرافضة أعظم أهل البدع دخولاً في هذا الوصف المذموم، فإنَّهم أعظم الطوائف افتراءً للكذب على الله، وأعظمهم تكذيباً بالصدق لمَّا جاءهم، وأبعد الطوائف عن المجيء بالصدق والتصديق به.

وأهل السُّنَّة المحضة أولى الطوائف بهذا، فإنَّهم يَصدقون، ويُصدِّقون بالحق في كلِّ ما جاء به ليس لهم هوى إلا مع الحق...

وقوله: {جَاءَ بِالصِّدْقِ} اسم جنس لكلِّ صدق، وإن كان القرآن أحق بالدخول في ذلك من غيره، ولذلك صدَّق به، أي بجنس الصدق، وقد يكون الصدق الذي صدَّق به ليس هو عين الصدق الذي جاء به، كما تقول فلان يسمع الحق، ويقول الحق ويقبله، ويأمر بالعدل ويعمل به، أي: هو موصوف بقول الحق لغيره، وقبول الحق من غيره، وأنَّه يجمع بين الأمر بالعدل والعمل به، وإن كان كثير من العدل الذي يأمر به ليس هو عين العدل الذي يعمل به.

فلمَّا ذمَّ الله - سبحانه - من اتصف بأحد الوصفين: الكذب على الله، والتكذيب بالحق - إذ كلٌّ منهما يستحق به الذم - مدح ضدَّهما الخالي عنهما، بأن يكون يجيء بالصدق لا بالكذب، وأن يكون مع ذلك مصدَّقاً بالحق، لا يكون بقوله هو، وإذا قاله غيره لم يُصدِّقه، فإنَّ من الناس يصدق ولا يكذب، لكن يكره أنَّ غيره يقوم مقامه في ذلك حسداً ومنافسة، فيُكذِّب غيره في صدقه أو لا يُصدقه، بل يُعرض عنه، وفيهم من يُصدِّق طائفة فيما قالت، قبل أن يعلم ما قالوه: أصدقٌ هو أم كذب؟، والطائفة الأخرى لا يُصدّقها فيما تقول وإن كان صدقاً، بل إمَّا أن يصدقها وإمَّا أن يُعرض عنها، وهذا موجود في عامة أهل الأهواء: تجد كثيراً منهم صادقاً فيما ينقله، لكن ما ينقله عن طائفته يُعرض عنه، فلا يدخل هذا في المدح، بل في الذمِّ، لأنَّه لم يصدق بالحق الذي جاءه، والله قد ذمَّ الكاذب والمكذِّب بالحق، لقوله في غير آية: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْـحَقِّ لَـمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}[العنكبوت: ٨٦].."(7/190 - 192)..

وقال في موضع آخر: ".. فإنَّ كثيراً مـمَّن سمع ذمَّ الكلام مجملاً، أو سمع ذم الطائفة الفلانية مجملاً وهو لا يعرف تفاصيل الأمور: من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والعامة، ومن كان متوسطاً في الكلام، لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا واختلفوا، تجده يذم القول وقائله بعبارة، ويقبله بعبارة، ويقرأ كتب التفسير والفقه وشروح الحديث، وفي تلك المقالات التي كان يذمها، فيقبلها من أشخاص آخرين يُحسن الظنَّ بهم،وقد ذكروها بعبارة أخرى، أو في ضمن تفسير آية أو حديث أو غير ذلك.

وهذا مـمَّا يوجد كثيراً، والسالم من سلَّمه الله، حتى إنَّ كثيراً من هؤلاء يُعظم أئمة، ويذمّ أقوالاً، قد يلعن قائلها أو يُكفِّر، وقد قالها أولئك الأئمة الذين يُعظمهم، ولو علم أنَّهم قالوها لما لعن القائل، وكثير منها قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف ذلك!"(5/280 - 281)، وهذا النص والذي قبله من النقول النفيسة التي يُعض عليها بالنواجذ، لأنَّها تعالج مسألة كثر فيها الخلل والاضطراب، خاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه الأهواء، وتفرَّقت فيه السبل، وأصبح الناس شيعاً وأحزاباً كلُّ حزب بما لديهم فرحون... نسأل الله - عزَّ وجلَّ - السلامة والعافية. وقد قال ابن تيمية في موضع آخر: «وقد رأيت من أتباع الأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، من يقول أقوالاً ويكفرون من خالفها، وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها، كما أنهم كثيراً ما ينكرون أقوالاً ويكفرون من يقولها، وتكون منصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب، ولأن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس، حتى صار الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو المطابق للمعقول - لا يخطر ببالهم، ولا يتصورونه، وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس» (درء تعارض العقل والنقل، 2/308 - 309)..

أمثلة تطبيقية على هذه القاعدة:

في التطيبق لهذه القاعدة النفيسة أذكر الأمثلة الآتية:

المثال الأول:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وليس كون الرجل من الجمهور الذين يعتقدون خلافة الثلاثة يُوجب له أنَّ كل ما رواه صدق، كما أنَّ كونه من الشيعة لا يُوجب أن يكون كل ما رواه كذباً، بل الاعتبار بميزان العدل"(7/412)..

المثال الثاني:

قال ابن تيمية مخاطباً الرافضة: "وأنتم تعلمون أنَّ أهل الحديث يبغضون الخوارج، ويروون فيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صحيحة، وقد روى البخاري بعضها، وروى مسلمٌ عشرة منها، وأهل الحديث متديِّنون بما صح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا: فلم يحملهم بغضهم للخوارج على الكذب عليهم، بل جربوهم فوجدوهم صادقين"(7/412 - 413)..

المثال الثالث:

قال ابن تيمية في وصف أئمة السُّنَّة والسلف: ".. وهم يذمّون أهل الكلام المبتدع الذين يردّون باطلاً بباطل، وبدعة ببدعة، ويأمرون ألَّا يقول الإنسان إلا الحق، لا يخرج عن السُّنَّة في حال من الأحوال، وهذا هو الصواب الذي أمر الله -تعالى- به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم نردّ ما تقوله المعتزلة والرافضة من حق، بل قبلناه، لكن بيَّنا أنَّ ما عابوا به مخالفيهم من الأقوال، ففي أقوالهم من العيب ماهو أشدّ من ذلك"(2/342)..

المثال الرابع:

قال ابن تيمية بعد كلام له سبق عن الفلاسفة: "وقد تكلمتُ عن ذلك، وبيَّنت تحقيق ما قاله أبو حامد في ذلك من الصواب الموافق لأصول الإسلام، وخطأ ما خالفه من كلام ابن رشد وغيره من الفلاسفة، وأنَّ ما قالوه من الحق الموافق للكتاب والسُّنَّة لا يردّ بل يُقبل، وما قصَّر فيه أبو حامد من إفساد أقوالهم الفاسدة فيمكن ردَّه بطريق أخرى يُعان بها أبو حامد على قصده الصحيح"(1/357)..

ملامح الاضطراب في منهج الرافضة:

أمام ذلك المنهاج العلمي المتين لأهل السُّنَّة، يظهر ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مقابل ذلك فساد منهاج الرافضة، وتقاصرهم وبعدهم عن هذه المنزلة الكريمة، ومن ملامح ذلك:

أ - أنَّهم يقبلون من القول ما يوافق أهواءهم:

قال ابن تيمية: "ولا ريب أنَّ المفترين للكذب من شيوخ الرافضة كثيرون جدَّاً، وغالب القوم ذوو هوىً أو جهل، فمن حدَّثهم بما يوافق أهواءهم صدَّقوه، ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه، ومن حدَّثهم بما يخالف أهواءهم، كذبوه، ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه، ولهم نصيب وافر من قوله -تعالى-: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}[الزمر: 32]، كما أنَّ أهل العلم والدين لهم نصيب وافر من قوله -تعالى-: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ}[الزمر: ٣٣].."(8/319)..

وقال أيضاً: "كل من جرَّب من أهل العلم والدين الجمهورَ علم أنَّهم لا يرضون بالكذب ولو وافق أغراضهم، فكم يروون لهم في فضائل الخلفاء الثلاثة وغيرها أحاديث بأسانيد خير من أسانيد الشيعة، ويرويها مثل أبي نُعيم، وأبي بكر النقاش، والأهوازي، وابن عساكر، وأمثال هؤلاء، ولا يقبل علماء الحديث منه شيئاً، بل إذا كان الراوي عندهم مجهولاً توقفوا في روايته، وأما أنتم معاشر الرافضة: فقد رأيناكم تقبلون كل ما يوافق رأيكم وأهواءكم لا تردّون غثَّاً ولا سميناً"(7/418)..

ب - الرافضة ينقلون ما لهم ويتركون ما عليهم:

قال ابن تيمية: ".. وأيّ كتاب وجدوا فيه ما يوافق أهواءهم نقلوه، من غير معرفة بالحديث، كما نجد هذا المصنِّف [يعني: ابن المطهر] وأمثاله ينقلون ما يجدونه موافقاً لأهوائهم، ولو أنهم ينقلون ما لهم وما عليهم من الكتب التي ينقلون منها، مثل تفسير الثعلبي، وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل، وفضائل الصحابة لأبي نعيم، وما في كتاب أحمد من زيادات القطيعي، وزيادات ابن أحمد، لانتصف النَّاس منهم، لكنهم لا يُصدِّقون إلا بما يوافق قلوبهم"(6/380)..

ج - الرافضة يتميزون بالمكابرة وردِّ الحقائق:

قال ابن تيمية: ".. وهم يُنكرون على بعض النواصب أنَّ الحسين لـمَّا قال لهم: أما تعلمون أنّي ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!، قالوا: والله ما نعلم ذلك! وهذا لا يقوله ولا يجحد نسب الحسين إلا متعمد للكذب والافتراء، ومن أعمى الله بصيرته باتباع هواه حتى يخفى عليه مثل هذا؟!، فإنَّ عين الهوى عمياء، والرافضة أعظم جحداً للحق تعمداً، وأعمى هؤلاء، فإنَّ منهم - ومن المنتسبين إليهم - كالنصيرية وغيرهم من يقول: إنَّ الحسن والحسين ما كانا أولاد عليّ، بل سلمان الفارسي، ومنهم من يقول: إنَّ عليَّاً لم يمت، وكذلك يقولون عن غيره، ومنهم من يقول: إنَّ أبا بكر وعمر ليسا مدفونين عند النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول: إنَّ رقية وأم كلثوم زوجتي عثمان ليستا بنتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هما بنتا خديجة من غيره، ولهم في المكابرات وجحد المعلومات بالضرورة أعظم مـمَّا لأولئك النواصب الذين قتلوا الحسين، وهذا مـمَّا يُبين أنهم أكذب وأظلم وأجهل من قتلة الحسين!"(4/367 - 368)..

وقال أيضاً: "وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقيناً بطرق كثيرة علماً لا يقبل النقيض بشُبَه في غاية الضعف، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ، الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، كالنصارى، والجهمية، وأمثالهم من أهل البدع والأهواء، الذين يدعون النصوص الصريحة التي تُوجب العلم، ويعارضونها بشبه لا تُفيد إلا الشكّ، لو تُعرض لم تثبت، وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات، وهو القدح فيما عُلم بالحسِّ والعقل بشبه تعارض ذلك، فمن أراد أن يدفع العلم اليقيني المستقر في القلوب الشبه، فقد سلك مسلك السفسطة"(7/464)..

وقال أيضاً: ".. ولكنَّ هؤلاء القوم - لفرط جهلهم وهواهم - يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعُلم أنها وقعت، فيقولون: ما وقعت، وإلى أمور ما كانت ويُعلم أنها ما كانت، فيقولون: كانت، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح، فيقولون: هي فساد، وإلى الأمور التي هي فساد، فيقولون: هي خير وصلاح، فليس لهم لا عقل ولا نقل، بل لهم نصيب من قوله -تعالى-: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: 10]"(6/121)، وانظر: (6/186)..

د - الرافضة يتعصبون في الباطل:

أشار ابن تيمية في مواضع عديدة إلى تعصب الرافضة في الباطل، وذكر شيئاً من عجائبهم في هذا المقام، ومن ذلك: "لا نعلم طائفة أعظم تعصباً في الباطل من الرافضة، حتى إنَّهم دون سائر الطوائف عرف منهم شهادة الزور لـمُوافقهم على مخالفهم، وليس في التعصب أعظم من الكذب، وحتى إنهم في التعصب جعلوا للبنت جميع الميراث، ليقولوا: إنَّ فاطمة - رضي الله عنها - ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم دون عمِّه العباس - رضي الله عنه -، وحتى أنَّ فيهم من حرَّم لحم الجمل، لأنَّ عائشة قاتلت على جمل، فخالفوا كتاب الله وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة والقرابة لأمر لا يُناسب ذلك، ومن تعصبهم: أنَّهم لا يذكرون اسم العشرة، بل يقولون: تسعة وواحد، وإذا بنوا أعمدة أو غيرها لا يجعلونها عشرة، وهم يتحرون ذلك في كثير من أمورهم.. فنفور هؤلاء الجهال عن التكلّم بهذه الأعداد في غاية الجهل، وإنَّما هو كنفورهم عن التكلّم بأسماء قوم يبغضونهم كما ينفرون عمَّن اسمه أبو بكر وعمر وعثمان لبغضهم لشخص كان اسمه هذا الاسم..

فلو فرض - والعياذ بالله - أنَّ هؤلاء كفار، كما يقول المفترون - لعنهم الله - لم يكن في ذلك ما يُوجب هجران هذه الأسماء، وإنَّما ذلك مبالغة في التعصب والجهل"(4/137 - 139)، وانظر: (1/38 - 44)..


 

ثانياً: ما كان مشروعاً لم يُترك لمجرد فعل أهل البدع:

من القواعد الموضوعية العزيزة التي أكدها ابن تيمية: أن المعيار الذي توزن به الاجتهادات والآراء هو ميزان الشرع، فما دلَّ عليه الكتاب والسنة أخذنا به وإن قال به بعض المخالفين، وما رده الكتاب والسنَّة رددناه وإن قال به بعض الموافقين.

قال ابن تيمية: "الذي عليه أئمه الإسلام: أنَّ ما كان مشروعاً لم يُترك لمجرد فعل أهل البدع: لا الرافضة ولا غيرهم، وأصول الأئمة كلهم توافق هذا منها: مسألة التسطيح التي ذكرها، فإنَّ مذهب أبي حنيفة وأحمد: تسنيم القبور. أفضل، كما ثبت في الصحيح أنَّ قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان مسنماًأخرجه: البخاري (2/103).، ولأن ذلك أبعد عن مشابهة أبنية الدنيا، وأمنع عن القعود على القبور، والشافعي يستحب التسطيح لما روي من الأمور بتسوية القبور، فرأى أن التسوية هي التسطيح، ثم إنَّ بعض أصحابه قال: إنَّ هذا شعار الرافضة فيُكره ذلك، فخالفه جمهور الأصحاب، وقال: بل هو المستحب وإن فعلته الرافضة.

وكذلك الجهر بالبسملة هو مذهب الرافضة، وبعض الناس تكلَّم في الشافعي بسببها، وبسبب القنوت، ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية، لأنَّ المعروف في العراق أنَّ الجهر كان شعار الرافضة، وأنَّ القنوت في الفجر كان من شعار القدرية الرافضة، حتى أنَّ سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة، لأنَّه كان عندهم من شعار الرافضة، كما يذكرون المسح على الخفين لأنَّ تركه كان شعار الرافضة، ومع هذا: فالشافعي لـمَّا رأى أنَّ هذا هو السُّنَّة كان ذلك مذهبه وإن وافق الرافضة..".

ولتأكيد هذه القاعدة يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قصة لطيفة، قال فيها: "وكذلك أحمد بن حنبل يستحب المتعة - متعة الحج - ويأمر بها، حتى يستحب هو وغيره من الأئمة - أئمة أهل الحديث - لمن أحرم مفرداً أو قارناً أن يفسخ ذلك إلى العمرة ويصير متمتعاً، لأنَّ الأحاديث الصحيحة جاءت بذلك، حتى قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد: يا أبا عبد الله قوّيت قلوب الرافضة لـمَّا أفتيت أهل خراسان بالمتعة!، فقال: يا سلمة كان يبلغني عنك أنَّك أحمق، وكنت أدفع عنك، والآن فقد ثبت عندي أنَّك أحمق، عندي أحدَ عشرَ حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أأتركها لقولك؟!".

وبعد هذا التقرير يُشير شيخ الإسلام ابن تيمية إلى فائدة دقيقة في غاية الأهمية، فيقول: "إذا كان في فعل مستحب مفسدة راجحة لم يصر مستحباً، ومن هنا: ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم، فإنَّه لم يترك واجباً بذلك، لكن قال: في إظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميَّز السُّني من الرافضي، ومصلحة التميز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم، أعظم من مصلحة هذا المستحب وهذا الذي ذهب إليه يُحتاج إليه في بعض المواضع إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على مصلحة فعل ذلك المستحب، لكن هذا أمر عارض لا يقتضي أن يُجعل المشروع ليس بمشروع دائماً، بل هذا مثل لباس شعار الكفار وإن كان مباحاً إذا لم يكن شعاراً لهم، كلبس العمامة الصفراء، فإنَّه جائز إذا لم يكن شعاراً لليهود، فإذا صار شعاراً لهم نُهي عن ذلك"(4/149 - 155)..

ثالثاً: إثبات محاسن الخصم وعدم جحدها إذا تبيَّن صحتها وثبوتها عنهم:

من تمام العدل والإنصاف: الاعتراف بمحاسن الخصم إذا كانت هذه المحاسن ثابتة عنهم، ولا يجوز إنكارها أو تجاهلها لمجرَّد المخالفة، لكن في الوقت ذاته يجب أن توزن تلك المحاسن بغيرها من المساوئ، وتوضع في إطارها الصحيح، وتؤخذ الأعمال بمجموعها، دون أن تجرَّد من منطلقاتها ودوافعها الظاهرة، ولا يجوز أن تذكر المحاسن مجردة عن المساوئ، حتى لا يغتر بها العامة والجهلة.

قال ابن تيمية: "وكلُّ من سوى أهل السُّنَّة والحديث مِن الفرق فلا ينفرد عن أئمة الحديث بقول صحيح، بل لا بدَّ أن يكون معه من دين الإسلام ما هو حق، وبسبب ذلك وقعت الشبهة، وإلا فالباطل المحض لا يشتبه على أحد، ولهذا سمي أهل البدع: أهل الشبهات، وقيل فيهم: إنَّهم يلبسون الحق بالباطل، وهكذا أهل الكتاب معهم حق وباطل... وهذه حال أهل البدع كلهم فإنَّ معهم حق وباطل"(5/167 - 168)..

وقد ذكر ابن تيمية بعض محاسن الرافضة لثبوتها عنهم، ولكنَّه قارن هذه المحاسن بمحاسن غيرهم، وذكرها مع ذكره لمساوئهم ومخازيهم، ومن ذلك قوله: "والرافضة فيهم من هو متعبّد متورّع زاهد، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء، فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة، والزيدية من الشيعة خير منهم: أقرب إلى الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج، ومع هذا فأهل السُّنَّة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإنَّ الظلم حرام مطلقاً كما تقدَّم، بل أهل السُّنَّة لكلِّ طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض.

وهذا مـمَّا يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا يُنصف بعضنا بعضاً.. ولا ريب أنَّ المسلم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض"(5/157 - 158)..

وقال في موضع آخر: "وينبغي أيضاً أن يُعلم أنَّه ليس كل ما أنكره بعض الناس عليهم يكون باطلاً، بل من أقوالهم أقوال خالفهم فيها بعض أهل السُّنَّة ووافقهم بعض، والصواب مع من وافقهم، لكن ليس لهم مسألة انفردوا بها أصابوا فيها، فمن الناس من يعدُّ من بدعهم: الجهر بالبسملة، وترك المسح على الخفين: إمَّا مطلقاً وإما في الحضر، والقنوت في الفجر، ومتعة الحج، ومنع لزوم الطلاق البدعي، وتسطيح القبور، وإسبال اليدين في الصلاة، ونحو ذلك من المسائل التي تنازع فيها علماء السُّنَّة، وقد يكون الصواب فيها القول الذي يوافقهم، كما يكون الصواب هو القول الذي يخالفهم، لكن المسألة اجتهادية، فلا تُنكر إلا إذا صارت شعاراً لأمر لا يسوغ، فتكون دليلاً على ما يجب إنكاره، وإن كانت نفسها يسوغ فيها الاجتهاد، ومن هذا وضع الجريد على القبر، فإنَّه منقول عن بعض الصحابة، وغير ذلك من المسائل"(1/44)..

وقال أيضاً: "وقولهم في الشرائعلعله يعني: الشرائع الفقهية. غالبه موافق لمذهب أهل السُّنَّة، أو بعض أهل السُّنَّة، ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد، ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غير الأربعة من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء، فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها، بخلاف الشاذ الذي لا يُعرف أن لا أصل له، لا في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا سبقهم إليه أحد"(2/369)..

وهذا المنهج مطرد عند ابن تيمية -رحمه الله تعالى-  في تعامله مع عامة المبتدعة، فها هو ذا يردّ على المعتزلة في مواضع كثيرة، ولكنه يقارن بين حال المعتزلة وغيرهم من الغلاة، فيقول: "فإنَّ فيهم من العدل والدين والاستدلال بالأدلَّة الشرعية، والرد على الرافضة ما أوجب أن يدخل فيهم جماعات من أهل العلم والدين، وإن انتسبوا إلى مذهب بعض الأئمة الأربعة كأبي حنيفة وغيره، بخلاف الرافضة فإنَّهم من أجهل الناس بالمنقول والمعقول، ومن دخل فيهم من المظهرين للعلم والدين باطناً فلا يكون إلا من أجهل النَّاس أو زنديقاً ملحداً"(4/135 - 136)..

رابعاً: قد يجتمع في الشخص الواحد موجبات المدح وموجبات الذم:

من التوازن العلمي والمنهجي عند أهل السنة أنهم يرون أن الشخص الواحد تكون له حسنات وسيئات، فتجتمع فيه موجبات الحمد وموجبات الذم، فيحمد على إحسانه، ويذم على إساءته، والعبرة بالغالب.

قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: ".. مـمَّا يتعلق بهذا الباب أن يُعلم أنَّ الرجل العظيم في العلم، والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة، أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.

ومثل هذا - إذا وقع - فتنة لطائفتين: طائفة تعظِّمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه. وطائفة تذمُّه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في برِّه وكونه من أهل الجنَّة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد.

والخوارج والروافض، وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، وسلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحقَّ حقه، فيُعظِّم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أنَّ الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويُذم، ويثاب ويعاقب، ويُحب من وجه، ويُبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم"(4/543 - 544)، وانظر: (6/198 و 203)، ومن أراد الزيادة في هذا المبحث فيمكنه مراجعة كتابي: (منهج أهل السُّنَّة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم)، نشر مجلة البيان..

وفي موضع آخر يذكر ابن تيمية أنَّ المسلم إذا كانت له حسنات كثيرة فإنَّها تغمر سيئاته القليلة، فها هو ذا يقول في معرض مناقشته للرافضة في عصمة الأئمة: "وأولئك اعتقدوا أنَّ الإمام له حسنات كثيرة تغمر سيئاته، وهذا ممكن في الجملة، فإنَّه يمكن أن يكون للمسلم حسنات تغمر سيئاته"(4/521)..

خامساً: عدم مقابلة الباطل بالباطل:

لا يجوز للمسلم أن يقابل الباطل بالباطل، وذلك لأنَّ المسلم العادل صاحب منهج متميِّز مطرد لا يتزعزع أبداً، يزن الأمور جميعها بموازين شرعية لا تؤثر فيها أهواء النفس وحظوظها، فالرافضة مثلاً إذا كفَّروا أبا بكر وعمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما - فلا يقابل هذا الباطل بتكفير علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- أو أحد الأئمة الاثني عشر.

قال ابن تيمية: "وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه، ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله، بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، ولو قتله بتجريع خمر أو تلوّط به، لم يجز قتله بمثل ذلك، لأنَّ هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سبَّ النصارى نبينا، لم يكن لنا أن نسبَّ المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليَّاً"(5/244)..

وقال أيضاً: "والخوارج تكفِّر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يُكفِّرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يُكفِّر فسَّق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويُكفِّرون من خالفهم فيه، وأهل السُّنَّة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يُكفِّرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق، كما وصف الله به المسلمين بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران: ٠١١]، قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس"(5/158)..

وقال في وصف الرافضة: "ولا يوجد في جميع الطوائف لا أكذب منهم، ولا أظلم منهم، ولا أجهل منهم، وشيوخهم يقرون بألسنتهم، يقولون: يا أهل السُّنَّة أنتم فيكم فتوة لو قدرنا عليكم لما عاملناكم بما تعاملونا به عند القدرة علينا"(4/121)..

فابن تيمية ها هنا يبني معياراً في الإنصاف يعتمد على ركيزتين: اتباع الحق بدليله، ورحمة الخلق. وهذا المعيار في الناس عزيز لا يرتقي إليه إلا أهل التجرّد، وتأمل معي هذا الموقف العجيب الذي حكاه ابن تيمية عن الرافضة قائلاً: "وأهل السُّنَّة نقاوة المسلمين، فهم خير النَّاس للناس، وقد عُلم أنَّه كان بساحل الشام جبل كبير، فيه ألوف من الرافضة يسفكون دماء النَّاس، ويأخذون أموالهم، وقتلوا خلقاً عظيماً، وأخذوا الخيل والسلاح والأسرى وباعوهم للكفار النصارى بقبرص، وأخذوا من مرَّ بهم من الجند، وكانوا أضرَّ على المسلمين من جميع الأعداء، وحمل بعض أمرائهم راية النصارى، وقالوا له: أيّما خير: المسلمون أو النصارى؟!، فقال: بل النصارى، فقالوا له: مع من تُحشر يوم القيامة؟!، فقال مع النصارى، وسلّموا إليهم بعض بلاد المسلمين. ومع هذا: فلمَّا استشار بعض ولاة الأمر في غزوهم، وكتب جواباً مبسوطاً في غزوهم، وذهبنا إلى ناحيتهم، وحضر عندي جماعة منهم، وجرت بيني وبينهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها، فلمَّا فتح المسلمون بلدهم، وتمكن المسلمون منهم، نهيتهم عن قتلهم وعن سبيهم، وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا"(5/159 - 160)..

وهذا من كريم صفات هذا الإمام الجليل، وحسن عدله وحكمته، فليس المقصود التشفي والانتقام، وإنما المقصود: كف أذاهم، ومنع شرورهم، وقمع باطلهم.

  • القاعدة الثالثة: التفريق بين طوائف الرافضة وعدم تعميم الأحكام:

تفرَّقت الرافضة إلى فرق متعددة وطوائف مختلفة، تتفق في أشياء وتختلف في أشياء أخرى، وقد ذكر ابن تيمية أنَّ الرافضة من حيث العموم ثلاث طوائف، وهي:

  1. الغالية.
  2. السابَّة.
  3. المُفضلة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "وهم ثلاث طوائف: طائفة غلت فيه [يعني: علي بن أبي طالب] وادعت فيه الإلهية، وهؤلاء حرَّقهم بالنار، وطائفة سبَّت أبا بكر، رأسهم عبد الله بن سبأ، فطلب عليّ قتله حتى هرب إلى المدائن، وطائفة كانت تفضله، حتى قال: لا يبلغني عن أحد فضَّلني على أبي بكر وعمر إلا جلدتُه جلد المفتري"(7/510 - 511)، وانظر: (1/306 - 307)..

وذكر ابن تيمية في كتابه: (منهاج السُّنَّة النبوية) أطرافاً متفرقة من معتقدات بعض فرق الرافضة المختلفة، كالبيانية والمغيرية والمنصورية والخطابية.. وغيرهمانظر: (2/234 - 242، 395، 477، 502، 514، 626) و (3/8 - 12، 470 - 485)، وغيرها..

وإذا وجد هذا التباين والاختلاف فليس من العدل أن يُنسب قول لبعضهم ثم يُعمَّم على جميع الفرق والطوائف، وعلى هذا المنهج الدقيق المنضبط سار شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (منهاج السُّنَّة النبوية)، مع أنَّه ركَّز فيه على الشيعة الإمامية، لأن ابن المطهر الحلي الذي ردَّ عليه ابن تيمية كان إماميَّاً.

قال ابن تيمية في بداية كتابه -بعد أن ذكر شيئاً من مخازي الرافضة وعجائبهم-: "وقول القائل: إنَّ الرافضة تفعل كذا وكذا، والمراد به بعض الرافضة، كقوله -تعالى-: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْـمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}[التوبة: 30]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}[المائدة: 64]، لم يقل ذلك كلُّ يهودي، بل قاله بعضهم. وكذلك قوله -تعالى-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}[آل عمران: 173]، المراد به جنس الناس، وإلا فمعلوم أنَّ القائل لهم غير الجامع وغير المخاطبين المجموع لهم"(1/36 - 37)..

وقال أيضاً: "وممَّا ينبغي أن يُعرف: أنَّ ما يوجد في جنس الشيعة من الأقوال والأفعال المذمومة وإن كان أضعاف ما ذكر، لكن قد لا يكون هذا كله في الإمامية الاثني عشرية ولا في الزيدية، ولكن يكون كثير منه في الغالية وفي كثير من عوامهم، مثل ما يُذكر عنهم من تحريم لحم الجمل، وأنَّ الطلاق يُشترط فيه رضا المرأة، ونحو ذلك مـمَّا يقوله بعض عوامهم، وإن كان علماؤهم لا يقولون ذلك، ولكن لـمَّا كان أصل مذهبهم مستنداً إلى جهل، كانوا أكثر الطوائف كذباً وجهلاً"(1/57)..

وقال في معرض كلامه عن الأئمة، وزعم الرافضة عصمتهم وأنَّهم في ذلك كالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-: "فهذه خاصة الرافضة الإمامية التي لم يشركهم فيها أحد - لا الزيدية الشيعة، ولا سائر طوائف المسلمين - إلا من هو شر منهم كالإسماعيلية الذين يقولون بعصمة العبيديين المنتسبين إلى محمَّد بن إسماعيل بن جعفر، القائلين بأنَّ الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر، وأولئك ملاحدة منافقون، والإمامية الاثنا عشرية خير منهم بكثير، فإنَّ الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خَلْق مسلمون باطناً وظاهراً، ليسوا زنادقة منافقين، لكنَّهم جهلوا وضلَّوا واتبعوا أهواءهم، أمَّا أولئك فأئمتهم الكبار العارفون بحقيقة دعوتهم الباطنية زنادقة منافقون، وأمَّا عوامهم الذين لم يعرفوا باطن أمرهم فقد يكونون مسلمين، وأمَّا المسائل المتقدمة فقد شرك غير الإمامية فيها بعض الطوائف، إلا غلوهم في عصمة الأنبياء لم يوافقهم عليه أحد أيضاً، حيث ادَّعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسهو، فإن هذا لا يوافقهم عليه أحد فيما علمت،  اللهم إلا أن يكون من غلاة جهال النساك، فإن بينهم وبين الرافضة قدراً مشتركاً في الغلو وفي الجهل والانقياد لما لا يعلم صحته، والطائفتان تشبهان النصارى في ذلك، وقد يقرب إليهم بعض المصنِّفين في الفقه من الغلاة في مسألة العصمة"(2/452 - 453)..

وهذا المنهاج مطرد عند شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في حديثه عن الفرق الأخرى، فها هو ذا يقول في الكتاب نفسه عن طائفة الفلاسفة: «وأمَّا الفلسفة مطلقاً أو إثباتها فلا يمكن، إذ ليس للفلاسفة مذهب معيَّن ينصرونه، ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات والمعاد والنبوات والشرائع، بل وفي الطبيعيات والرياضيات، بل ولا في كثير من المنطق. ولا يتفقون إلا على ما يتفق عليه جميع بني آدم من الحسيات المشاهدة والعقليات التي لا يُنازع فيها أحد، ومَنْ حكى عن جميع الفلاسفة قولاً واحداً في هذه الأجناس، فإنَّه غير عالم بأصنافهم واختلاف مقالاتهم، بل حسبه النظر في طريقة المشائين أصحاب أرسطو كثامسطيوس والإسكندر الأفروديسي وبرقلس من القدماء، وكالفارابي وابن سينا والسهرورديّ المقتول وابن رشد الحفيد وأبي البركات ونحوهم من المتأخرين، وإن كان لكلِّ من هؤلاء في الإلهيات والنبوات والمعاد قول لا يُنقل عن سلفه المتقدمين، إذ ليس لهم في هذا الباب علم تستفيده الأتباع، وإنَّما عامة علم القوم في الطبيعيات، فهناك يسرحون ويتبجَّحون، وبه وبنحوه عظَّم من عظَّم أرسطو، واتبعوه لكثرة كلامه في الطبيعيات، وصوابه في أكثر ذلك، وأمَّا الإلهيات فهو وأتباعه من أبعد النَّاس عن معرفتها».

وقال في موضع آخر: «وأمَّا الخلاف الذي بين الفلاسفة فلا يحصيه أحد لكثرته ولتفرقهم، فإن الفلسفة التي عند المتأخرين - كالفارابي وابن سينا ومن نسج على منوالهما - هي فلسفة أرسطو وأتباعه، وهو صاحب التعاليم: المنطق، والطبيعي، وما بعد الطبيعة، والذي يحكيه الغزالي والشهرستاني والرازي وغيرهم من مقالات الفلاسفة هو من كلام ابن سينا(1/357 - 358)..

والفلاسفة أصناف مصنَّفة غير هؤلاء، ولهذا يذكر القاضي أبو بكر في (دقائق الكلام)، وقبله أبو الحسن الأشعري في كتاب: مقالات غير الإسلاميين - وهو كتاب كبير أكبر من مقالات الإسلاميين - أقوالاً كثيرة للفلاسفة لا يذكرها هؤلاء الذين يأخذون عن ابن سينا. وكذلك غير الأشعري، مثل: أبي عيسى الورَّاق، والنوبختي، وأبي عليّ، وأبي هاشم، وخلق كثير من أهل الكلام والفلاسفة»(5/282 - 283)، وقد ذكر ابن تيمية فائدة دقيقة في معرفة ردود المبتدعة على بعضهم بعضاً، فقال: «وعلم الإنسان باختلاف هؤلاء وردِّ بعضهم على بعض، وإن لم يعرف بعضهم فساد مقالة بعض، هو من أنفع الأمور، فإنَّه ما منهم إلا من قد فصَّل مقالته طوائف،فإذا عرف ردّ الطائفة الأخرى على هذه المقالة عرف فسادها، فكان في ذلك نهى عـمَّا فيها من المنكر والباطل، وكذلك إذا عرف رد هؤلاء على أولئك، فإنَّه يعرف ما عند أولئك من الباطل، فيتقي الباطل الذي معهم. ثم من بيَّن الله له الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم - إمَّا أن يكون قولاً ثالثاً خارجاً عن القولين، وإمَّا أن يكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء، وعرف أنَّ هذا هو الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وعليه دلَّ الكتاب والسُّنَّة - كان الله قد أتمَّ عليه النعمة إذ هداه الصراط المستقيم، وجنَّبه صراط أهل البغي والضلال، وإن لم يتبيَّن له: كان امتناعه عن موافقة هؤلاء على ضلالهم، نعمة في حقه، وأعتصم بما عرفه من الكتاب والسُّنَّة مُجملاً، وأمسك عن الكلام في تلك المسألة، وكانت من جملة ما لم يعرفه» (5/281 - 282)..

  • القاعدة الرابعة: التثبت في النقل عن المبتدعة:

التثبت في النقل عن المبتدعة من الأمور المهمة التي يجب الالتزام بها، فلا يجوز أن يُنسب للإنسان ما لم يقله، حتى لو كان مبتدعاً مفترياً للكذب محارباً لأهل السُّنَّة، فهذا من الظلم المذموم الذي حرَّمه الله -تعالى-، وبيان حال المبتدع وانحرافه ممكن - ولله الحمد والمنَّة - ومتيسر بغير هذا الطريق، فضلالهم بيِّن، وانحرافهم ظاهر، قال الله -تعالى-: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة: ٨].

وفي هذا الباب يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالكذب على الشخص حرام كله، سواء أكان الرجل مسلماً أم كافراً، براً أم فاجراً، لكن الافتراء على المؤمن أشد، بل الكذب كله حرام"مجموع الفتاوى (28/223)..

وقال أيضاً: "والظلم محرَّم في كل حال، فلا يحلّ لأحد أن يظلم أحداً ولو كان كافراً"المرجع السابق (19/44)..

فالتثبت في النقل علامة مهمة على النزاهة والأمانة والصدق، ولن يستقيم البحث العلمي إلا بذلك، وقد برزت هذه الصفة المنهجية عند شيخ الإسلام ابن تيمية بروزاً ظاهراً في ردِّه على المبتدعة عامة، ومنهم ابن المطهر الرافضي، فها هو ذا في الكتاب كله يُصدِّر ردّه على ابن المطهر بنقل كلامه بنصه، فيقول: قال الرافضي كذا وكذا، ثم يتبعه بعد ذلك بالمناقشة والردّ. وزاد من دقة الأمر ووضوحه أنَّ المحقق الدكتور محمد رشاد سالم -رحمه الله تعالى- رجع إلى النسخة المطبوعة في إيران لكتاب منهاج الكرامة، وقارن بينها وبين ما أثبته ابن تيمية.

وهذه الطريقة في المناقشة والردّ في غاية المنهجية والعلمية لأسباب عديدة، منها:

  1. تدلُّ على الدقة والأمانة في النقل، فلا يُنسب إلى القائل إلا ما ثبت عنه.
  2. تعصم الإنسان - غالباً - من سوء الفهم، وتحميل الكلام ما لا يحتمل.
  3. تدين الخصم من قلمه فلا مجال لإنكار ذلك أو التبرؤ منه.

ولهذا يذكر ابن تيمية أنَّ من تمام المعرفة بأقوال النَّاس نقل ألفاظهم بدقَّة، فيقول: "وكثير من النَّاقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم، وسائر ما به يُعرف مرادهم قد يتعسَّر على بعض الناس، ويتعذَّر على بعضهم"(6/303)..

وهو يطالب ابن المطهر الرافضي بذلك أيضاً، فعندما اتهم الرافضي أهل السُّنَّة بأنهم حشوية ومجسِّمة قال معترضاً عليه: "من أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليُسمِّ القائل والنَّاقل، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب، فقد تبيَّن كذبه فيما ينقله عن أهل السُّنَّة"(2/413)..

ولـمَّا نقل ابن المطهر عن الشهرستاني قوله: "وبالجملة كان الحقُّ مع عليّ، وعليّ مع الحقِّ»، قال ابن تيمية تعليقاً على ذلك: «والنَّاقل الذي لا غرض له: إمَّا أن يحكي الأمور بالأمانة، وإمَّا أن يُعطي كل ذي حقّ حقَّه"(6/362)..

ولهذا ذمه ابن تيمية على عدم تثبته وتحريه في النقل عن أهل السُّنَّة، فقال: "هذا المبتدع أخذ يشنِّع على أهل السُّنَّة فذكر مسائل لا يذكر حقيقتها ولا أدلتها، وينقلها على الوجه الفاسد، وما ينقله عن أهل السُّنَّة خطأ أو كذب عليهم أو على كثير منهم.

وما قُدّر أنه صدق عن بعضهم فقولهم فيه خير من قوله، فإن غالب شناعته على الأشعرية ومن وافقهم، والأشعرية خير من المعتزلة والرافضة عند كل من يدري ما يقول، ويتقي الله فيما يقول"(1/444)..

وفي موضع آخر ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن ابن المطهر الرافضي أخذ ينقل عن أهل السُّنَّة: "مقالات لا يقولها إلا بعضهم مع تحريفه لها، فكان في نقله من الكذب والاضطراب ما لا يخفى على ذوي الألباب"(2/221)..

  • القاعدة الخامسة: هجر المبتدعة هو من باب العقوبات الشرعية:

قال ابن تيمية: "ردّ شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء، وتنازعوا في شهادة سائر أهل الأهواء: هل تقبل مطلقاً أم ترد مطلقاً أم ترد شهادة الداعية إلى البدع؟ وهذا القول الثالث هو الغالب على أهل الحديث، لا يروون الرواية عن الداعية إلى البدع ولا شهادته، ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات، كالصحاح والسنن والمسانيد، الرواية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع، وإن كان فيها الرواية عمَّن فيه نوع من بدعة كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية، وذلك لأنهم لم يدعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم، ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه بخلاف من أخفاها وكتمها، وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهيَ عن إظهار بدعته، ومن هَجْره ألَّا يؤخذ عنه العلم ولا يُستشهد.

وكذلك تنازع الفقهاء في الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور: منهم من أطلق الإذن، ومنهم من أطلق المنع، والتحقيق أنَّ الصلاة خلفهم لا ينهى عنها لبطلان صلاتهم في نفسها، لكن لأنهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يُهْجَروا وألَّا يُقدَّموا في الصلاة في المسلمين، ومن هذا الباب ترك عيادتهم وتشييع جنائزهم، كل هذا من باب الهجر المشروع في إنكار المنكر للمنهي عنه.

وإذا عرف أنَّ هذا هو من باب العقوبات الشرعية: علم أنَّه يختلف باختلاف الأحوال من قلة البدعة وكثرتها، وظهور السُّنَّة وخفائها، وأنَّ المشروع قد يكون التأليف تارة والهجرانُ تارة أخرى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقواماً من المشركين مـمَّن هو حديث عهد بالإسلام ومن يخاف عليه الفتنة، فيعطي المؤلفة قلوبهم ما لا يعطي غيرهم.

قال في الحديث الصحيح: (إني لأعطي رجالاً وأدع رجالاً، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي رجالاً لما جعل الله في قلوبهم من الهلع والجزع، وأدع رجالاً لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم: عمرو بن تغلب)أخرجه البخاري: (2/10 - 11).، وقال: (إني لأعطي الرجل وغيرهُ أحب إليّ منه خشية أن يكبَّه الله على وجهه في النار)أخرجه البخاري: (1/10)، ومسلم (1/132 - 133). -أو كما قال- وكان يهجر بعض المؤمنين، كما هجر الثلاثة الذي خُلفوا في غزوة تبوك، لأن مقصوده دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح، والرهبة حيث تكون أصلح.

ومن عرف هذا تبيَّن أن له من ردَّ الشهادة والرواية مطلقاً من أهل البدع المتأولين فقوله ضعيف، فإن السلف قد دخلوا بالتأويل في أنواع عظيمة. ومن جعل المظهرين للبدعة أئمة في العلم والشهادة لا يُنكر عليهم بهجر ولا ردع فقوله ضعيف أيضاً. وكذلك من صلى خلف المظهر للبدع والفجور من غير إنكار عليه ولا استبدال به من هو خير منه مع القدرة على ذلك فقوله ضعيف، وهذا يستلزم إقرار المنكر الذي يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع القدرة على إنكاره، وهذا لا يجوز. ومن أوجب الإعادة على كل من صلى خلف كل ذي فجور وبدعة فقوله ضعيف، فإن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين صلوا خلف هؤلاء وهؤلاء لما كانوا ولاة عليهم، ولهذا كان من أصول أهل السُّنَّة: أن الصلوات التي يقيمها ولاة الأمور تصلى خلفهم على أي حال كانوا، كما يُحج معهم ويُغزى معهم"(1/62 - 66)..

 

المصدر: مجلة البيان

1 - أخرجه: أحمد (4/126 - 127)، وأبو داود (5/13 - 15)، والترمذي (5/44) وابن ماجة (1/16).
2 - (5/256).
3 - (8/411).
4 - (5/250).
5 - (1/20).
6 - (5/262).
7 - (5/255).
8 - (5/162).
9 - (5/239).
10 - قال المحقق: لم أجد هذا الحديث. قلت: لعلَّه من كلام الإمام الثوري، انظر: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال، رقم (32).
11 - (5/253 - 255).
12 - (5/126 - 127).
13 - (5/146).
14 - أخرجه: البخاري (3/58 و 64)، مسلم (3/1164).
15 - (1/16).
16 - (1/56)، وفي هذا الباب يقول تلميذه ابن القيم: «فطالب الحق يقبله مـمَّن كان، ويردّ ما خالفه على من كان». (مدارج السالكين، 3/331).
17 - (2/342 - 343).
18 - (7/190 - 192).
19 - (5/280 - 281)، وهذا النص والذي قبله من النقول النفيسة التي يُعض عليها بالنواجذ، لأنَّها تعالج مسألة كثر فيها الخلل والاضطراب، خاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه الأهواء، وتفرَّقت فيه السبل، وأصبح الناس شيعاً وأحزاباً كلُّ حزب بما لديهم فرحون... نسأل الله - عزَّ وجلَّ - السلامة والعافية. وقد قال ابن تيمية في موضع آخر: «وقد رأيت من أتباع الأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، من يقول أقوالاً ويكفرون من خالفها، وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها، كما أنهم كثيراً ما ينكرون أقوالاً ويكفرون من يقولها، وتكون منصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب، ولأن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس، حتى صار الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو المطابق للمعقول - لا يخطر ببالهم، ولا يتصورونه، وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس» (درء تعارض العقل والنقل، 2/308 - 309).
20 - (7/412).
21 - (7/412 - 413).
22 - (2/342).
23 - (1/357).
24 - (8/319).
25 - (7/418).
26 - (6/380).
27 - (4/367 - 368).
28 - (7/464).
29 - (6/121)، وانظر: (6/186).
30 - (4/137 - 139)، وانظر: (1/38 - 44).
31 - أخرجه: البخاري (2/103).
32 - (4/149 - 155).
33 - (5/167 - 168).
34 - (5/157 - 158).
35 - (1/44).
36 - لعله يعني: الشرائع الفقهية.
37 - (2/369).
38 - (4/135 - 136).
39 - (4/543 - 544)، وانظر: (6/198 و 203)، ومن أراد الزيادة في هذا المبحث فيمكنه مراجعة كتابي: (منهج أهل السُّنَّة والجماعة في تقويم الرجال ومؤلفاتهم)، نشر مجلة البيان.
40 - (4/521).
41 - (5/244).
42 - (5/158).
43 - (4/121).
44 - (5/159 - 160).
45 - (7/510 - 511)، وانظر: (1/306 - 307).
46 - انظر: (2/234 - 242، 395، 477، 502، 514، 626) و (3/8 - 12، 470 - 485)، وغيرها.
47 - (1/36 - 37).
48 - (1/57).
49 - (2/452 - 453).
50 - (1/357 - 358).
51 - (5/282 - 283)، وقد ذكر ابن تيمية فائدة دقيقة في معرفة ردود المبتدعة على بعضهم بعضاً، فقال: «وعلم الإنسان باختلاف هؤلاء وردِّ بعضهم على بعض، وإن لم يعرف بعضهم فساد مقالة بعض، هو من أنفع الأمور، فإنَّه ما منهم إلا من قد فصَّل مقالته طوائف،فإذا عرف ردّ الطائفة الأخرى على هذه المقالة عرف فسادها، فكان في ذلك نهى عـمَّا فيها من المنكر والباطل، وكذلك إذا عرف رد هؤلاء على أولئك، فإنَّه يعرف ما عند أولئك من الباطل، فيتقي الباطل الذي معهم. ثم من بيَّن الله له الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم - إمَّا أن يكون قولاً ثالثاً خارجاً عن القولين، وإمَّا أن يكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء، وعرف أنَّ هذا هو الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وعليه دلَّ الكتاب والسُّنَّة - كان الله قد أتمَّ عليه النعمة إذ هداه الصراط المستقيم، وجنَّبه صراط أهل البغي والضلال، وإن لم يتبيَّن له: كان امتناعه عن موافقة هؤلاء على ضلالهم، نعمة في حقه، وأعتصم بما عرفه من الكتاب والسُّنَّة مُجملاً، وأمسك عن الكلام في تلك المسألة، وكانت من جملة ما لم يعرفه» (5/281 - 282).
52 - مجموع الفتاوى (28/223).
53 - المرجع السابق (19/44).
54 - (6/303).
55 - (2/413).
56 - (6/362).
57 - (1/444).
58 - (2/221).
59 - أخرجه البخاري: (2/10 - 11).
60 - أخرجه البخاري: (1/10)، ومسلم (1/132 - 133).
61 - (1/62 - 66).

إضافة تعليق جديد