الخميس 28 مارس 2024 الموافق 18 رمضان 1445 هـ

إضاءات فكرية

مرحلية المجتمعات

06 شوال 1439 هـ


عدد الزيارات : 2781
فايز الصلاح

 

 

المجتمعاتُ البشريةُ تنمو وتتدرجُ في نموها، ويصيبها الوهنُ والمرضُ من بعد قوةٍ وعزّةٍ، كما هو الشأن في الكائن الإنساني، يكون طفلاً فشابًّا فرجلًا، فيصلُ إلى قمّة قوته، ثم يبدأ في النزول حتى يصلَ إلى مرحلة الضعف والشيخوخة، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].

ومعرفة طبيعة المجتمعات وكيفية تطوّرها وتدرّجها ومدى قربها وبعدها من القانون الإلهي أمرٌ في غاية الأهمية، ليكون لدينا من الفقه والبصيرة في كيفيّة التصرّف حيال هذه المجتمعات، وليحدّد المسلم حركته في هذا الواقع إقدامًا وإحجامًا.

وأمور الكون والاجتماع لا تسير عبثًا، بل هي خاضعةٌ لسنةٍ ربّانيةٍ لا تتغير، كما قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43].

والمتأمّل لسورة الكهف والتي ذكرت عدّة فتن، وكيف يكون موقف المسلم منها: فتنة الدين، والمال، والعلم، والسلطان، كلُّ ذلك من خلال ذكر عدّة مجتمعات، لو تمعّنْتَ فيها لوجدتها كالمراحل التي مرَّ فيها المجتمع الإسلامي الأول.

ولقد ذكر الله في سورة الكهف ثلاثة مجتمعات مختلفة، ومن ثَمَّ يختلف تصرّف المسلم حيالها، فكان مما ذكره سبحانه :


   1. مجتمع الرأي الواحد الباطل، وهو ما يُعَبِّرُ عنه اليومبالدكتاتورية)، وهذا المجتمع يسيطر فيه الكفار، ويجبرون الناس على اعتناق باطلهم، وإلّا كان مصيرُه الموت أو السجن، وما قصة أصحاب الأخدود عنّا ببعيد: ملكٌ جبّارٌ أراد من المؤمنين أن يرتدّوا عن دينهم، فصبروا وثبتوا، فكان جزاؤهم أبشع قتلة وهي الحرق بالنيران.

وهكذا كان الشأن في مجتمع الفتية في سورة الكهف، سلطانٌ متجبرٌ، وفتيةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، ولما أبى عليهم السلطان ذلك فرّوا بدينهم إلى الكهف، لأنّهم لا يستطيعون إظهار إيمانهم وإلا كان مصيرهم القتل،  كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 20]. ولما كان الأمر كذلك، لم يكن من الحكمة الدخول معهم في صدامٍ، فكان لا بدّ من الهجرة والاعتزال، فكان كما قال تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 16].

وهكذا كان الأمر في المجتمع الصحابي الأوّل في مكة، حيث كان السلطان للقوّة المستبدّة الكافرة من قريش، والمؤمنون مستضعفون لا قوة لهم ولا حيلة، وتعرّض كثير منهم للتعذيب بل القتل، فكان لابدّ من خروجٍ إلى سبيل من هذه الفتنة، فكانت الهجرة إلى الحبشة ثم بعد ذلك إلى المدينة.

وشبيه بمثل هذه المجتمعات: المجتمعاتُ الشيوعية كما كان في الاتحاد السوفيتي وغيره من البلدان، ففي مثل هذه المجتمعات لا يمكن أن يعيش المؤمن إلا متخفّيًا بإيمانه، أو مهاجرًا من وطنه، وبالتالي الحركة العنيفة في مثل هذه المجتمعات عبثٌ وتهوّرٌ، ونتيجتها معروفة، ورأس مال المسلم في هذا المجتمع هو إيمانه فيجب الحفاظ عليه بكلّ وسيلة وطريقة.

   

   2. المجتمع الحواري الدعوي: وهو المجتمع الذي يختلط فيه الحق بالباطل، ويجتمع فيه المسلم مع الكافر، والصالح مع الفاسق، والسني مع البدعي، ولا يكون فيه ظهور لأيّ طرف من حيث الإطلاق، ويمكن للمسلم أن يبلّغ دعوته من غير إيذاء إلى حدٍّ ما، ويعتبر هذا المجتمع مرحلة متطورة عن المجتمع الأول، وتكون فيه الحرّية للجميع على حدٍّ سواء، للمحق والمبطل، والمفسد والمصلح.

فلذلك ذكره الله -سبحانه وتعالى- بعد الأوّل في سورة الكهف بشعاره الأكبر ألا وهو الحوار، والذي كان ممنوعًا في مجتمع الرأي الواحد الاستبدادي.

قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا • كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف: 32 – 44].

والله -سبحانه وتعالى- ذكر فعل الحوار مرتين، مرّةً من الكافر مع المؤمن: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} ومرة من المؤمن مع الكافر: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}.

والعلاقة هنا هي الصحبة التي تدلّ على المخالطة والقرب. وكلاهما لم يستخدم مع الآخر القوة الصلبة، بل القوة الناعمة من الحوار والإقناع.

وفي مثل هذه المجتمعات ينبغي على المحقّ استغلال جوّ الحرّية في الدعوة إلى الله، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125].

ويشبه هذا المجتمع ما كان قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة النبوية، حيث كان هناك مسلمون قد دخلوا في دعوة الإسلام، وكافرون ما زالوا على الشرك والكفر من الأوس والخزرج واليهود، فلذلك بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- مصعب بن عمير -رضي الله عنه- داعيًا إلى الله، فدخل في الإسلام كثيرٌ منهم بالحوار والإقناع.

فلا ينبغي للمسلم في هذا المجتمع أن يستخدم القتال لتحقيق دعوته، بل يصبر ويُصابر حتى يأذن الله بالفرج.

 

   3. مجتمع التمكين، وهو المجتمع الذي فيه السلطان للإسلام والمسلمين، ففي هذا المجتمع لابدّ فيه إقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم، ومَنْ أحسنَ يُقال له أحسنت، ومَنْ أساءَ يُقال له أسأت، ويؤدّب بما يقتضيه المقام من زجرٍ أو ضربٍ أو حبسٍ أو قتلٍ، وفي هذا المجتمع ينبغي على المسلم أنْ يعينَ السلطان على ذلك ولا ينزع يدًا من طاعة.

وهذه الصورة المشرقة كانت واضحة في سياسة ذي القرنين: الملك الصالح، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا  حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 83 – 88].

وكان يمثل هذا المجتمع: الدولة الإسلامية في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، ثم بدأ النقص فيما بعد.

وإنك لتجد نكتةً عجيبةً في سورة الكهف، فقد ذكر الله سياحتين: سياحةً علميةً وهي التي قام بها موسى -عليه السلام- حين رحل إلى الخضر -عليه السلام- لطلب العلم، ثم بعد ذلك ذكر السياحة الجهادية والتي قام بها السلطان ذو القرنين، وقُدِّمت السياحةُ العلميةُ على الجهادية حتى نعلمَ أنَّ الجهادَ مبنيٌ على العلم، لأنّه بغير ذلك فسادٌ وإفسادٌ.

قال البقاعي في نظم الدرر (2/128): " ولما فرغ من هذه القصّة (قصة موسى) التي حاصلها أنّها طواف في الأرض لطلب العلم، عقبها بقصّة من طاف الأرض لطلب الجهاد، وقدَّم الأولى إشارةً إلى علوِّ درجة العلم، لأنّه أساسُ كلِّ سعادةٍ، وقوام كل أمر".

فلن تتحقق ثمارٌ لجهادنا المعاصر، إن لم يُبْنَ على أساس من العلم الصحيح، مع فقهٍ للواقع والواجب.

 

التعليقات

بيرق شام (لم يتم التحقق)

جزاكم الله خيراً


إضافة تعليق جديد