السبت 07 ديسمبر 2024 الموافق 05 جمادي الثاني 1446 هـ

إضاءات فكرية

تطبيقات السياسة الشرعية في العهد النبوي

20 ربيع اول 1440 هـ


عدد الزيارات : 11924
فهد بن صالح العجلان

 

المشكلة الرئيسة عند الغلاة ليست في تبنّي بعض الآراء والمواقف المفْرِطة في الغلوّ، بل هي في رؤيتهم للعالم وطريقة تعاملهم مع المفاهيم والنصوص.

ومن المفاهيم التي تعرّضت للتشويه على أيدي الغلاة: مفهوم السياسة الشرعية، فهم تارة يحرّفون معناها ليناسب أفكارهم، وتارة يتركون العمل بها، وتارة يزعمون أنّ السياسة لا تكون شرعية إلا إذا نصّ عليها الشرع، وكثيرًا ما يهملون الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلّم- في تطبيقه للسياسة الشرعية جهلًا أو اتباعًا للهوى!!

وفي هذا المقال: يسلّط الكاتب الضوءَ على مفهوم السياسة الشرعية وعلى كثير من تطبيقاتها في العهد النبوي.

تقرؤون في هذا المقال:

  • مفهوم السياسة الشرعية.
  • مساحة «ما لا نص فيه» ماذا تشمل؟
  • مشروعية العمل بالسياسة الشرعية.
  • شواهد السياسة الشرعية في الهدي النبوي.
  • النظر السياسي في التصرفات النبوية.
  • كيف نستدل على السياسة الشرعية بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استقرّ عند المعاصرين أنّ السياسة الشرعية تكون في ما لا نص فيه؟

 

تطبيقات السياسة الشرعية في العهد النبوي

  • مدخل منهجي

 لم يكن لمصطلح «السياسة الشرعية» ذاك الحضور في المدوّنة الفقهية التراثية، فاستعمال هذا المصطلح كان محدودًا في متفرّقات من كلام بعض أهل العلم، بين موسّع ليشمل كل التصرفات المتعلقة بالشأن العام، ومضيّق له في العقوبات والتعازير.

ثم شاع استعمال هذا المصطلح في عصرنا، وكثرت فيه الأبحاث والدراسات، وعظمت العناية به، واستقرّ العرف العلمي المعاصر على استعمال هذا المصطلح في التصرّفات التي تعنى بتدبير الشأن العام في ما يحقق المصلحة ويدفع المفسدة في ما لا نص فيه.

وحين نقرّر هنا أنّ هذا المصطلح لم يكن له ذاك التحرير والضبط والشيوع في المدوّنة الفقهية التراثية، فهذا من قبيل التوصيف المفيد الذي يساعد على تحسين التصوّر لهذا المصطلح، وليس نقدًا يعيب الدراسات المعاصرة في شيء، فشيوع مصطلح معيّن وكثرة العناية به في زمانٍ معيّن ليس خطأ، بل هو شيء محمود، إذ هو استجابة إيجابية لمتغيّرات عصرنا الذي يموج بتحولات كبيرة في مفاهيم السياسة وأدواتها وإمكانياتها بما يحتم ضرورة التفاعل معها وفق موازين الشريعة وأحكامها، وهو ما نشط من حركة الاجتهاد المعاصر في السياسة الشرعية.

فالسياسة الشرعية إذن: تستهدف تحقيق المصالح ودفع المفاسد بما يتوافق مع أصول الشريعة وقواعدها ولا يخالف حِكَمها وأحكامها، وهو يتحرك في المساحة الاجتهادية التي لا نصّ فيها، وهي مساحة واسعة جدًا، ومن رحمة الشريعة ويسرها أن جعلت هذه المساحة هي الدائرة الأوسع التي يمكن من خلالها مراعاة المتغيرات ودفع الحاجات وتحقيق المصالح من غير تضييع لشيء من أصول الشرع وثوابته، ففي سعتها ما يجعل المخالف مفرّطًا قد ترك اتباع الشرع لهوى أو شهوة أو إعراض، وإلا فلو كان مقصده تحقيق المصلحة لكان في سعة الشريعة ما يغنيه.

 

  • سعة الشريعة:

مساحة «ما لا نص فيه» تشمل ثلاثة أمور:

الأول: ما كان من قبيل الإباحة في الشريعة، وهو من أوسع أبواب الشريعة، فهو دائرة واسعة جدًّا يمكن من خلالها أن تتحرّك النظم والقوانين لتحقيق المصالح ودفع المفاسد في كافة الجوانب.

الثاني: ما كان من النصوص متعلّقًا بمصلحة أو ظرف متغيّر، فثمّ من الأحكام ما قد شُرع مراعاة لمصلحة أو عرف معيّن، وليس من الأحكام الثابتة المرتبطة بعلل مستمرّة، فهذه في الحقيقة داخلة في ما لا نص فيه، وإن بدا لبعض الناس أنّ ثمّ نصًّا في المسألة، وهذه جزئية تتعلّق بفهم النص لا يتسع المجال لعرضها هنا.

الثالث: ما تعارضت فيه النصوص، وتشابكت فيه المصالح والمفاسد، فهنا قد يقتضي الاجتهاد تغليب جلب المصلحة أو دفع المفسدة، ومثل هذا يتطلب اجتهادًا وليس فيه نصّ قطعي.

 

  • مشروعية العمل بالسياسة الشرعية:

تعتمد السياسة الشرعية في مشروعيتها على جملة من الأصول والقواعد المركزية التي تدلّ على اعتبارها الشرعي، كأصول الاستدلال والقواعد العامة من سدّ الذرائع والمصلحة المرسلة ورفع الحرج ودفع الضرر ونحو ذلك مما جاءت الشريعة باعتباره، فالسياسة الشرعية تستند إلى هذه الأصول وتسعى لتحقيقها على أرض الواقع، كما تستند السياسة الشرعية إلى غيرها من الأصول، ومن أبرز الأصول المظهِرة لمشروعيتها سياسة النبي صلى الله عليه وسلم .

فالتطبيقات النبوية المتعلّقة بالسياسة الشرعية هي أصل مركزي يستند إليه في بيان مشروعية السياسة الشرعية، حيث ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- جملة من النصوص والمواقف هي من قبيل السياسة الشرعية، فيُستدَلّ بها على مشروعيتها.

 

  • شواهد السياسة الشرعية في الهدي النبوي:

حين نتتبّع التطبيقات النبوية المتعلّقة بالسياسة نجد أنّ لدينا جانبين مهمّين يضيئان البحث الفقهي في النظر إلى السياسة الشرعية:

المجال الأول: التطبيق العملي للحكم والذي صدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- باعتباره حاكمًا.

المجال الثاني: ما كان من قبيل القواعد الكلّية والفروع الجزئية، التي تكشف لك ما يجب أن تراعيه، أو تتركه من المصالح والمفاسد.

 

  • المجال الأول: التطبيق العملي للحكم:

والمقصود به ما تصرف به النبي -صلى الله عليه وسلم- باعتباره حاكمًا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبلّغ الرسالة ويبيّن الأحكام، وفي الوقت نفسه كان هو الحاكم للمسلمين، فكان يقوم بجملة من المهامّ بصفته حاكمًا، وهذه القضية هي المعروفة بالتصرّفات النبوية، وذلك أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يتصرّف في غالب الأحكام بصفته مبلّغًا، لكنّه في بعض القضايا قد يتصرف بصفته قاضيًا، أو بصفته إمامًا، فيكون هذا متعلّقًا بالقضاة والولاة وليس عامًّا لجميع الناس، وقد أحسن القرافي -رحمه الله- في تجلية هذا المفهوم وبيان أمثلته، وأثر ذلك في اختلاف العلماء في بعض المسائلانظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ص45-49، وانظر: الفرق السادس والثلاثين من كتاب الفروق، (1/357-361)..

 

ومن شواهد هذا التطبيق العملي للحكم:

1. تفويض مهامّ السلطة وواجباتها: حيث كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيّن الأمراء، ويرسل السفراء، ويجبي الزكاة، ويرسل البعوث والسرايا، ونحو ذلك مما هو من واجبات الحاكم التي لا بدّ من القيام بها لاستقامة أحوال الناس.

2. حفظ حقوق الناس: بالقضاء والفصل في الخصومات، ومنع التظالم، وتوزيع العطاء والغنائم بينهم.

3. القيام بالواجبات الشرعية: من إقامة الحدود، ومنع المحرمات.

4. التصرّف في الأمور التي خيّر الشارع فيها بين عدة أمور: كالتخيير بين الأسرى.

5. التصرّف في الأمور المباحة الموكلة إليه بحسب المصلحة: كعقد الصلح والهدنة والعفو وإقامة العقوبات التعزيرية وغيرها.

فهذه جملة وقائع كثيرة تتعلّق بتصرفات نبوية صدرت من النبي -صلى الله عليه وسلم- باعتباره حاكمًا، فهي موكولة إلى الحكّام من بعده ليسيروا على ذات ما سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم .

 

  • المجال الثاني: القواعد والفروع الجزئية:

وهذه القواعد تتعلّق بدلالة تشريعية مؤثّرة في النظر الفقهي، وليست من قبيل التصرّفات السياسية، فهي تفيد النظر الفقهي في الجانب السياسي، وفي غيره من الجوانب، ودلالتها على الجانب السياسي من وجهين:

الوجه الأول: معرفة كيفية العمل حين تعارض المصالح والمفاسد.

الوجه الثاني: أنّها كاشفة عن أوجه معتبرة في أبواب السياسة.

 

ومن الشواهد هنا:

1. ترك قتل المنافقين خشية من فتنة تنفير الناس عن الدخول في الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم : (لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)أخرجه البخاري برقم (4905) ومسلم برقم (2584)..

 

2. ترك إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام خشية من نفور المسلمين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلّم-  لعائشة شارحًا السبب: (لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ، أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ، وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ)أخرجه البخاري (1584)، ومسلم (401)..

وهذان الحديثان متكاملان، فواقعة ترك قتل المنافقين روعي فيها نفور غير المسلمين عن الدخول في الإسلام، وواقعة ترك إعادة بناء الكعبة روعي فيها نفور المسلمين أنفسهم عن الدين، وهذا من كمال رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالناس وحبّه لهدايتهم فكان يجتهد في تأليف الجميع على الإسلامسبق أن أفرد الكاتب لكلّ واقعة من هذه الوقائع النبوية مقالة خاصة، انظر: مقالة «لا يتحدّث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه»، عدد (336) من مجلة البيان (http://www.albayan.co.uk/mobile/MGZarticle2.aspx?ID=4361)، ومقالة «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر»، عدد (370) من مجلة البيان (http://www.albayan.co.uk/mobile/MGZarticle2.aspx?ID=6147)..

 

3. إذنُ النبي -صلى الله عليه وسلّم- لمحمد بن مسلمة -رضي الله عنه- أن يقول شيئًا، لـمّا أمره أن يقتل كعب بن الأشرف، فعن جابر رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم  قال: (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ائْذَنْ لِي فَلْأَقُلْ، قَالَ: قُلْ)أخرجه البخاري (4037) ومسلم (115).​، فهذا يدلّ على مشروعية خداع من يستحقّ القتل من الكفّار بمثل هذا، وقد وقع خلافٌ بين أهل العلم في حقيقة هذا الإذن: هل هو إذن بالنطق الصريح أو بالتلميح، فمعرفة الوجه الفقهي المستفاد من هذه الواقعة في السياسة ينبني على هذا الخلافانظر: مقالة «مقتل كعب بن الأشرف .. أحكام ودلالات»، عدد (368) من مجلة البيان (http://albayan.co.uk/Mobile/MGZarticle2.aspx?ID=6078).​.

 

4. إعطاء المؤلفة قلوبهم وتفضيلهم في العطاء يوم حنين.

 

5. وقائع الشورى في سيرته صلى الله عليه وسلم ، وهي وقائع كثيرة.

 

6. وقائع العفو في سياسته صلى الله عليه وسلم، كما عفا عن من أخطأ من الصحابة كحاطب -رضي الله عنه- لـمّا كاتب المشركين، كما عفا -صلى الله عليه وسلم- عن المشركين يوم فتح مكة.

 

7. عرض النبي -صلى الله عليه وسلم-  نصف ثمار المدينة على غطفان ليرجعوا عن حصار المدينة يوم الأحزاب، وقد تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد استشارته للسعدين رضي الله عنهماأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6/28)، وانظر: سيرة ابن هشام (2/223)..

 

8. وقائع العقوبات والتعازير في سياسته صلى الله عليه وسلم، كالأمر بهجر من تخلّف من غزوة تبوك من الصحابة رضي الله عنهمأخرجه البخاري (4677)، ومسلم (2769)، من حديث كعب بن مالك.، وهمّه بأن يحرق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعةأخرجه البخاري (2420)، ومسلم (651)، وغيرهما من حديث أبي هريرة.، وإباحته -صلى الله عليه وسلم- سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجدهأخرجه مسلم (1364)، وأبو داود (2038)، وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص.وغيرها.

 

9. ما جاء في صلح الحديبية من جملة من التصرّفات السياسية: كحذف وصف النبوة من اسمه صلى الله عليه وسلم، واسم الرحمن من وثيقة الصلح، لـمّا رفض الكفار كتابتها، واشتراط رد من جاء مسلمًا من الكفار إليهمأخرجه البخاري ومسلم..

 

10. كما أنّ في السياسة النبوية معرفة سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوة الناس من أوّل بعثته، وتحمّل أذاهم، وغشيان أنديتهم، وما جاء من الأمر بالهجرة إلى الحبشة، وعرض نفسه على القبائل والبحث عن نصير، ثم كيفية تأسيس الدولة، والتعامل مع المنافقين واليهود والمشركين، وكلها تتضمن تشريعات مهمة في الجانب السياسي خصوصاً، وفي الجانب الفقهي عموماً.

 

  • تثوير السياسة النبوية:

يبقى أنّ كل ما ذكر هو نفائس يسيرة من مَعِينِ السياسة النبوية، ومهما اجتهد الباحث في تتبّع المزيد سيجد أنّ مساحات النظر تكشف عن المزيد من أبواب العلم والفقه والخير في هذه السياسة النبوية المباركة، فهو مخزن يتطلّب المزيد من الحفر والتنقيب لإظهار المزيد من الكنوز، فهي ثروة تتطلب المزيد من التثوير، وقد راق لي هذا المصطلح لما قرأته في بحث الشيخ د. مساعد الطيار حفظه الله ونفع به: "تثوير علوم القرآن من خلال كتاب التفسير من صحيح البخاري"ينظر: (http://www.attyyar.net/book/1415620824.pdf).، وهي مستفادة من مقولة لعبدِ الله بن مسعود رضي الله عنه: "من أراد خير الأولين والآخرين فليثوِّر القرآن، فإن فيه خير الأولين والآخرين"، ويعني هذا: مدارسة القرآن ومناقشة أحكامه والبحث فيها، فهو لا يحصل بمجرد القراءة، بل لا بد من معرفة الآية، ثم إثارة الأسئلة حولها، ومفاتشة العلماء فيها، والتأمل العميق فيهاانظر: مقالة بعنوان «تثوير القرآن» للشيخ عمرو شرقاوي: (https://vb.tafsir.net/tafsir38416/#.W_EGTjjXKM8)..

فسياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- بحاجة إلى مثل هذا المستوى من البحث والنظر والتأمل، لا يكفي فيه مجرد المعرفة العابرة بالواقعة، وإنّما التدقيق فيها، والبحث عن كيفية الاستفادة منها في واقع مختلف، وحدود اعتبارها، وهو مجال رَحب ومهم ينبغي أن تتضافر جهود الباحثين النابهين فيه.

 

  • النظر السياسي في التصرفات النبوية:

إذن: تصرفاته -صلى الله عليه وسلم- في المجال السياسي على وجهين:

الأول: ما كان من قبيل التصرّف باعتباره حاكمًا، فيكون الاستدلال عليه من جهة أن يقتدي به الحاكم المسلم في تحقيق المصالح ودفع المفاسد عن الناس وتحقيق العدل.

الثاني: ما كان متضمّنًا لقواعد وأحكام وتشريعات متعلقة بالسياسة، فيؤخذ منها قواعد لهذه السياسة يلتزم بها الحكام، لكنّها ليست مختّصة بهم، بل هي من الأحكام الفقهية الشرعية العامّة، غير أنّ تنفيذ الأحكام المتعلّقة بالجانب السياسي متعلّق بالحكّام وليس لآحاد الناس.

 

  • دفع إشكال عن الاستدلال بالتصرفات النبوية:

هنا يأتي سؤال مهمّ، وهو أنّ السياسة الشرعية قد استقرّت عند المعاصرين بأنّها تصرف في الشأن العام في ما لا نصّ فيه، فكيف يستدل عليها بفعل أو قول للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقواله وأفعاله هي تشريعات بذاتها، فكيف تكون سياسة شرعية في ما لا نص فيه، ما دام أنّ ذات فعله وقوله تشريع؟

وهذا سؤال ذكي وجيد، والجواب عنه من وجهين:

الوجه الأول: أنّ من التصرفات النبوية ما كان تصرّفًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- باعتباره حاكمًا، كتوزيع الغنائم وبعث الجيوش والأمراء، وعقد الصلح، وإعلان الحروب، وتوزيع العطايا، وغير ذلك، وهذه تصرفات يفعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- بصفته حاكمًا، ويسير فيها وفق ما أمره الله، ووجه الدلالة من هذه التصرفات أنّ هذه التصرّفات هي سياسة شرعية في تحقيق المصالح ودفع المفاسد في ما لا نص فيه، فنحن نستدل بها من هذا الوجه على أن نسير كما سار النبي صلى الله عليه وسلم .

 

الوجه الثاني: أنّ هذه المواقف والشواهد المتعلّقة بالسياسة الشرعية من سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإن كانت نصوصًا لها حجّيتها بذاتها، فإنّه يؤخذُ منها أصل كلي هو: مشروعية سعي الحاكم ومَن له الأمر لجلب المصلحة ودفع المفسدة في تدبير الشأن العام في ما لا نص فيه، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حين يترك -مثلًا- قتل المنافقين خشية المفسدة، فهذه سياسة شرعية وإن كان هنا جاء فيه نص معتبر لأنّه مِنْ فِعل النبي صلى الله عليه وسلم، فوجه الدلالة هنا: أنّ هذا الدليل يدلّ على مشروعية مراعاة هذا الأمر كما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ مراعاة المفاسد عند تطبيق الأحكام هو من الأمور المشروعة في السياسة الشرعية.

 

فالاستدلال بسياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا ليس لأنّها سياسة شرعية في ما لا نص فيه كسياسة غيره، بل لأنّ هذه الشواهد تدلك:

أولاً: على أنّ تعتبر بمثل ما اعتبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في جلب المصالح ودفع المفاسد.

ثانياً: أنّ مراعاة مثل هذه المفاسد التي راعاها النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس من قبيل معارضة النصّ، بل هو من قبيل إعمال جميع النصوص، والترجيح بين جلب المصالح ودفع المفاسد، وليس ذلك معارضة للنصّ، بل هو اجتهاد معتبر في ما لا نص فيه.

 

1 - انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، ص45-49، وانظر: الفرق السادس والثلاثين من كتاب الفروق، (1/357-361).
2 - أخرجه البخاري برقم (4905) ومسلم برقم (2584).
3 - أخرجه البخاري (1584)، ومسلم (401).
4 - سبق أن أفرد الكاتب لكلّ واقعة من هذه الوقائع النبوية مقالة خاصة، انظر: مقالة «لا يتحدّث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه»، عدد (336) من مجلة البيان (http://www.albayan.co.uk/mobile/MGZarticle2.aspx?ID=4361)، ومقالة «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر»، عدد (370) من مجلة البيان (http://www.albayan.co.uk/mobile/MGZarticle2.aspx?ID=6147).
5 - أخرجه البخاري (4037) ومسلم (115).
6 - انظر: مقالة «مقتل كعب بن الأشرف .. أحكام ودلالات»، عدد (368) من مجلة البيان (http://albayan.co.uk/Mobile/MGZarticle2.aspx?ID=6078).
7 - أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6/28)، وانظر: سيرة ابن هشام (2/223).
8 - أخرجه البخاري (4677)، ومسلم (2769)، من حديث كعب بن مالك.
9 - أخرجه البخاري (2420)، ومسلم (651)، وغيرهما من حديث أبي هريرة.
10 - أخرجه مسلم (1364)، وأبو داود (2038)، وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص.
11 - أخرجه البخاري ومسلم.
12 - ينظر: (http://www.attyyar.net/book/1415620824.pdf).
13 - انظر: مقالة بعنوان «تثوير القرآن» للشيخ عمرو شرقاوي: (https://vb.tafsir.net/tafsir38416/#.W_EGTjjXKM8).

إضافة تعليق جديد