الأربعاء 24 أبريل 2024 الموافق 15 شوال 1445 هـ

إضاءات فكرية

الفهم العلمي لمُركّب الغلوّ

01 جمادي الثاني 1440 هـ


عدد الزيارات : 2540
ابراهيم السكران

 

الفهم العلمي لمُركّب الغلوّهذا المقال جزء من بحث: كيف أسهم الإعلام الليبرالي في تعزيز شرعية الغلاة..

الغلوّ المقصود هنا: هو الغلو الذي وصل إلى حالة استحلال الدماء المعصومة بالتأويلات الدينية الباطلة، كالغدر بالأهل والأقارب من أهل (لا إله إلا الله) واستدراجهم خارج البنيان وقتلهم وتصوير ذلك تبجّحاً، وقتل الثوار الذين يجاهدون الطغيان النصيري، وهدم المساجد على المصلين الراكعين الساجدين، وتجرئة الشاب الجاهل على الحكم بإخراج المعيّنين من الإسلام بالجملة، والاستهانة بدماء غير المحاربين من النساء والأطفال والمستأمنين، ونحوها.

وهناك من تناول هذه الظاهرة في سياق المناكفات واللدد، فضيّع القدرة على التحليل العلمي الهادئ للظاهرة، ولا شيء أكثر حزناً من ضمور الاستعداد للفحص الهادئ الجادّ للظواهر في زحام المغايظات والمشاحنات الفكرية والتراشق الإعلامي.

ومن تأمّل هذه الظاهرة بعلمية وموضوعية هادئة، أدرك أنّ الضال بالغلو هو أولاً فرد ضمن "جماعة غلو"، وهذه الجماعة تقدم له مُغذِّيات التلاحم المعنوية والمادية، كالتساند والتآزر والتأكيد المستمر للشرعية والمهمات المشتركة الخ، والأفراد في هذه الظاهرة وإن اجتمعوا في مقولات عامة مشتركة إلا أن بينهم تفاوتاً في الخلفيات والبواعث، فمنهم القيادات الجائعة للنفوذ والهيمنة التي تسعى عبر توظيف الأفكار الحرورية لاستقطاب المتحمس الأعمى وتشتيت المزاحمين، وفيهم الشاب الصادق المخدوع الذي يستخدمه رؤوس الغلاة حطباً في مشروعهم، وبينهما شرائح متعددة، سنتناول بعضها فيما يلي:

فهناك الشابّ الصادق المجروح من المظالم التي تقع على المسلمين وأهل السنة في كل مكان، وهوانهم على الناس، لكنه محدود العلم ومحدود الخبرة فلا يعلم كيف ينصر دينه وأمته ويسترد عزتها، فيرى هذا الخطاب الذي يتظاهر أنه يتحدى العالم، ويستقطبه بالبيانات الصوتية العنترية والمقاطع الهوليودية المُضلِّلَة التي تركز كلها على فكرة "الاستمالة بحكايات الغلبة"، والاستمالة بحكايات الغلبة نموذج تفسيري ظهر لي من خلال دراسة وثائق التنظيم يمكن تلخيصه بالحكاية التالية: (اجتمعت الأمم علينا ومازلنا ننتصر، وأن الأمم تخاف منا، وأن الناس يتوافدون يبايعون خليفتنا، وأنّ الشباب ينشقّون عن الفصائل ويأتون إلينا، وأنّ العامة في المناطق التي نحكمها منبهرين بنا وبإدارتنا للاقتصاد ونهينا عن المنكر، وأنّنا في رفاه … الخ).

وللتعزيز البصري لهذه الحكاية يصورون أحياناً أنفسهم متحلّقين حول ألوان الأطعمة، بل والحلويات، وأطفال البلدات الشامية حولهم جوعى محاصَرون، ويصورون عمليات حقيقة ووهمية، ويلتقطون صوراً لأرتال سياراتهم من زوايا فنية يراد بها صناعة الهالة وتعزيز حكاية الغلبة وتوالي الظفر.

هذا التصوير لحكايات الغلبة الوهمية بغرض استقطاب الشباب وتجنيدهم، يجري إنتاجه بشكل دوري ومستمر في خطابات العدناني العنترية الرسمية للتنظيم، وفي مقاطعهم الهوليودية، فإذا اقترب منهم الشاب الصادق محدود العلم بدؤوا يغذونه بالتأويلات الدينية المغلوطة والاقتباسات العشوائية من كتب التراث التي تؤكّد له بشكل مستمر شرعية وبسالة عمله، بل و"كفر وردّة وضلال" كل المنافسين الجهاديين! فضلاً عن "كفر وردّة" قطاعات العلم والدعوة والإصلاح والثقافة في دول المسلمين اليوم، وأنّ كل العالم اليوم تقريباً عملاء للنظام العالمي وأنهم هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة القائمة في وجهه، وأنّه يرتعد خوفاً منهم.

وقد يكون مثل هذا الشاب الصادق في نصرة الدين عنده شيء من العلم، وليس جاهلاً محضاً، ولكن عنده غيرة زائدة عن القدر الشرعي تحمله على التغاضي عن الانتهاكات الشرعية في الدماء المعصومة في سبيل مغايظة ومراغمة الدول المعاصرة، فما يزال به الأمر حتى يصل لتزيين تلك الجرائم العظيمة.

وهذه الشريحة كثرت عنها الدراسات الحديثة ويسمونها أحياناً "الشباب المسلم الغاضب"(angry Muslim youth) ، ويفسّرون بها سبب انخراط شباب مسلم من أصقاع متباعدة عاش حياته في العواصم الأوروبية أو في أنحاء العالم العربي في بعض كيانات الغلو، برغم أنّه لم يكن بين هؤلاء الأفراد أي تكوينات فكرية مشتركة مسبقاً، لا سلفية ولا غير سلفية.

وهناك شريحة -أيضاً- في قاعها النفسي العميق خدوش وشِجاج وقروح من تجربة اعتقال له أو لبعض أقاربه، فما يزال الكمد يتضخم حتى يصبح في سبيل الانتقام والنكاية يبحث عن أشد خطاب معارض للدولة التي اعتقلته، حتى لو كان خطاب غلاة سفاحين، فيتبناه للثأر وشفاء الغيظ في البداية، ويلتمس لهم المعاذير، ثم ما يلبث أن يصبح جزءاً عضوياً من هذا الكيان والخطاب، ويعادي أشد العداء كل عالِم أو داعية أو مثقف يبدي أدنى مرونة مع الدولة التي اعتقلته أو اعتقلت قريباً له، قال الإمام ابن تيمية: "من اعتاد الانتقام ولم يصبر، لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها"قاعدة في الصبر، ص (102)..

وهناك -أيضاً- الشاب الذي فيه نزعة غريزية للبطش والعجرفة والتسلط والشِّجار، حتى قد يكون تورط مسبقاً بمشكلات في أقسام الشُّرَط، ووجد في خطاب الغلاة الجبروتي ما يشبع نهمته أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولًا بلبوس ديني، فتجده يدخل مع الغلاة بحماسة، بل ربما يصوّر نفسه برشاشه وهو يهين أحد المخالفين بتلذذ، كما قال ابن تيمية: "وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانّة أنّها تفعله طاعة لله"الفتاوى: (28/207).. ولدى هذه الشريحة قابلية واسعة جداً لأيّ تأويل ديني يعزز هذا السلوك العنجهي المُحبّب لها، واستعداد واسع لتخطئة المعلومات الشرعية غير الملائمة.

وهناك شريحة -أيضاً- يمكن توصيفها بصورة أدقّ باعتبار أنّها لم تدخل مع الغلاة والغلو بعد اكتماله النهائي، وإنّما واصلت الطريق التدريجي معها لاعتبارات صلات تاريخية، بحيث أنّ كل خطوة ترقّق ما بعدها، فقد يكون شارك مع بعض الجماعات في جهاد مشروع في أصله، ونشأت بينهم علاقات حميمية بحيث يمثّلون له (سند وعزوة) لا يحتمل الغضاضة عليهم، فيتأوّل لهم بصورة متوالية كل دركة ينزلونها في مشروع الغلو حتى يصبح جزءاً من المنظومة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، وقد قال الإمام ابن تيمية: "ولأجل هذا وَقَع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض، بالمعاشرة والمشاكلة"اقتضاء الصراط المستقيم: (1/547)..

وهناك شريحة -أيضاً- تكثر في القيادات والمرجعيات داخل جماعات الغلو، يكون لديها هوى خفي في شهوة الرياسة والنفوذ، فتجدها توفّر المستندات والتأويلات لشرعنة الغلو، إما لحصد الحضور داخل المنظومة، أو لتوسيع هيمنة الجماعة، أو لكسر المنافس الجهادي، ولدى هذه الشريحة قابلية واسعة للتأويلات المساندة لسلطتهم بسبب هذا الهوى الخفي، ولصرف المعطيات الشرعية التي تقلص هيمنتهم عن ظاهرها.

وإذا زاد الباحث في فحص هذه الظاهرة فسيلاحظ المعطى المفاجئ فعلاً، وهو أن قطاعاً واسعاً من المنتسبين للغلاة ممن قاموا بجرائم داخل المجتمع المسلم وكان لها دوي إعلامي، ليس لهم تجربة تديّن سابق أصلاً، بل بعضهم ذكر والده في مقابلة معه أنه كان يتغيب عن الصلاة في المسجد، ونشر الإعلام لشخص آخر حياته الصاخبة بالموسيقي والمحرّمات، ونحو ذلك، بما يعني أنه لم يوجد لهم تجربة كافية للتشكل بأي منظومة شرعية أصلًا.

وأمّا ما تعلنه جماعات الغلاة من الاستدلالات والاحتجاجات والاستشهادات بالقرآن والحديث وتراث أهل السنة، فعامّته لا يخرج عن آلية: (وضع نصوص الشرع ونصوص العلماء في غير موضعها)، وسأضرب لذلك أمثلة تبيّنها:

فتجدهم يدورون حول عدّة مفاهيم قرآنية وأثرية مثل: الكفر بالطاغوت، وكفر الحكم بغير ما أنزل الله، وكفر تولّي الكفار، وقتال أبي بكر للمرتدين، ونحوها، فيضعونها في غير موضعها بتجريدها من قيودها وشروطها وموانعها، فمثلاً يأتون إلى مَنْ أَجَّلَ تطبيق بعض الأحكام الشرعية للعجز وعدم القدرة والإمكان، فينزلون عليه كفر الحكم بغير ما أنزل الله، برغم أن أهل العلم كافةً لا يختلفون أنّ من شروط التكليف أصلاً الوسع والاستطاعة.

أو يأتون إلى النصوص الشرعية في ردّة من تولّى الكفار وناصرهم على استئصال المسلمين وعلو كلمة الكفر وظهور دين الكفار، ثم يُسقطونها على شخص في أحد الكيانات التي ينازعونها، وغاية حجّتهم صورة يتناقلونها بينهم بشيء من التهويل فيها جلوسه وتبسّمه مع مسؤول كافر في أحد الدول المعاصرة، ويجعلونها حجة على مظاهرة الكفار على المسلمين! برغم أنّ أهل العلم لا يختلفون أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اتّخذ السفراء والرسل وفاوض الكفار وحاورهم، وتبسّم وتلطّف لبعضهم بحسب المصلحة الشرعية الراجحة.

فإذا تأمّل الباحث الموضوعي هذه الصورة بكاملها، في البواعث والاستدلالات، تبيّن له أن حصيلة الخلل مُركّب من أمرين غالباً: الغلط في العلم، واتباع هوى النفس.

وهل هذا استنتاج شخصي؟

لا، بل هذا أمر نبّهنا عليه القرآن، وإليه ترجع عامة أصول الخلل في التيارات الفكرية المنحرفة المنتسبة إلى الإسلام طوال التاريخ، وقد قال الله سبحانه: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم: 23].

واتباع الظنّ غلط في العلم وهو من جنس الشبهة، واتباع الهوى خلل في الإرادة وهو من جنس الشهوة، وأعمال ابن آدم هي حصيلة العلم والإرادة، فتكمل وتنقص بحسبهما، وقال الإمام ابن تيمية: "إذا خالط الظنّ والغلط في العلم هوى النفوس ومناها في العمل، صار لصاحبها نصيبٌ من قول الله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ}"حقوق آل البيت، ص (39)..

وقد كان الإمام ابن تيمية يكرّر هذا النموذج التفسيري للتيارات المنحرفة كثيراً، كقوله: "كل من خالف الرسول لا يخرج عن: الظن، وما تهوى الأنفس"مجموع الفتاوى (13/67).،  وقال: "عامّة مواضع التفرّق والاختلاف تصدر عن: اتباع الظن، وما تهوى الأنفس"مجموع الفتاوى (6/463).،  وقال: "وثمّ قسم آخر وهم غالب، وهو أن يكون له هوى فيه شبهة، فيجمع الشهوة والشبهة"الفتاوى الكبرى (4/ 28)..

واستعمل ابن تيمية هذا المعنى -أعني تركُّب الأمر من الظنّ والهوى- في تفسير كثير من الفتن في الدماء والمحدثات في أصول الدين. (انظر مثلاً: الاستقامة: (2/253)، منهاج السنة: (4/543)، النبوّات: (1/420)، وكلامه في هذا كثير منتشر، كقوله مثلاً: "الباغي قد يكون متأوّلاً معتقداً أنّه على حق، وقد يكون متعمّداً يعلم أنّه باغٍ، وقد يكون بَغْيُه مركّباً من شبهة وشهوة، وهو الغالب"منهاج السنّة، (4/385).. فالشبهة تفسد العلم والتصوّر والإدراك، فيرى الأمور على غير ما هي عليه، في فهم النص وتصوّر الواقع، كليهما.

وعامّة المحاولات التي سعت لتفسير "ظاهرة الغلو" دخل عليها نقص الدقّة من جهة التفسير الاختزالي للظاهرة، كمن حاول نفي أن يكون لهم شبهة في العلم، أو من جعلهم صادقين عقائديين ضد الطغيان المعاصر ولم يتفطن للهوى الظاهر والخفي، أو من جعلهم كلهم -أفرداً وقيادات- مجرّد سياسيين مطلقاً لا بواعث صادقة عندهم أو عند بعضهم البتة، أو من جعلهم مجرد صنيعة استخباراتية محضة، أو من نفى عنهم مطلقاً أية اختراق خارجي، فكل هذه التفسيرات غير دقيقة، والأدق -في نظري- أن هذه الظاهرة "مركّبة"، فيها شبهة في العلم، ونوع هوى في الإرادة، وهم شرائح متفاوتة البواعث والمقاصد والأغراض وإن تقاسموا مقولات نهائية مشتركة فيها انحراف وإجرام"هذه جولة مختصرة حول ظاهرة الغلو الجماعاتي، هدفها فقط بيان "التركيبية" في هذه الظاهرة، ولمزيد التفصيل يمكن مراجعة خمس دراسات سابقة منشورة على موقع صيد الفوائد: (رسالة إلى المنتسب لتنظيم الدولة - قتل الأهل والأقارب عند تنظيم الدولة - منزلة المجاهدين عند تنظيم الدولة - تفجير مساجد أهل السنة - التعبّد لله بتقبيل أقدام الولاة)"..

 

 

1 - هذا المقال جزء من بحث: كيف أسهم الإعلام الليبرالي في تعزيز شرعية الغلاة.
2 - قاعدة في الصبر، ص (102).
3 - الفتاوى: (28/207).
4 - اقتضاء الصراط المستقيم: (1/547).
5 - حقوق آل البيت، ص (39).
6 - مجموع الفتاوى (13/67).
7 - مجموع الفتاوى (6/463).
8 - الفتاوى الكبرى (4/ 28).
9 - منهاج السنّة، (4/385).
10 - هذه جولة مختصرة حول ظاهرة الغلو الجماعاتي، هدفها فقط بيان "التركيبية" في هذه الظاهرة، ولمزيد التفصيل يمكن مراجعة خمس دراسات سابقة منشورة على موقع صيد الفوائد: (رسالة إلى المنتسب لتنظيم الدولة - قتل الأهل والأقارب عند تنظيم الدولة - منزلة المجاهدين عند تنظيم الدولة - تفجير مساجد أهل السنة - التعبّد لله بتقبيل أقدام الولاة)".

إضافة تعليق جديد